يُخطَّط لكثير من الإصلاحات السياسية والتعديلات الدستورية لتطبيقها في الدول العربية، خصوصاً تلك التي تشهد انتفاضات شعبية. غير أن العالم العربي لن يتقدم في عملية الإصلاح السياسي إذا لم ينجح في إطلاق ثورة اقتصادية لحل الأزمات والمشكلات المتفاقمة في دوله. فالغضب الشعبي من الفساد ومعدلات البطالة المرتفعة وتفشي الفقر والتفاوت الشاسع في توزيع الثروة لم يُترجم بعد إلى مطالب بالإصلاح الاقتصادي الشامل، بل زادت الحكومات، سواء الانتقالية منها أو تلك التي لم تواجه اضطرابات، الدعم العشوائي لأسعار المحروقات والسلع، وكثفت استخدام العمال في المؤسسات الحكومية. ويعكس اتجاه كهذا نظرة قريبة الأجل لكسب الشعبية بدلاً من التعامل مع المشكلات الهيكلية والاختلالات البعيدة الأجل التي تواجه دول المنطقة. وأصبحت الحكومات ومؤسسات القطاع العام تمثّل الاختيار الأساسي للمواطنين للعمل في وظائف ذات إنتاجية متدنية، وغالباً ما لا يكون هناك ضرورة فعلية لها، لتتحول بذلك البطالة السافرة إلى بطالة مقنّعة. أضف إلى ذلك أن التوسع في الدعم يزيد من العجز في موازنة الدولة، فتتفاقم المديونية في الدول العربية غير النفطية، ويتعزز نمط المجتمع الريعي في الدول الخليجية. الربيع العربي إذاً في حاجة إلى ثورة اقتصادية تقلّص من دور القطاع العام في إدارة الحياة الاقتصادية، وتخفض العجز والمديونية لدى الحكومات، وتطمئن المستثمرين والمؤسسات المالية إلى وجود استقرار اقتصادي وتشجع المصارف على زيادة الائتمان. وثمة حنين لدى بعض الناشطين السياسيين للعودة إلى أفكار الاقتصاد الموجّه للحد من تفشي الفساد المالي والاقتصادي الذي ترافق مع عمليات التخصيص والتحرر الاقتصادي. لكن إن كانت هناك تجاوزات، يجب ألا يؤدي ذلك إلى توجيه الاتهام للقطاع الخاص ككل. وهناك مرحلة انتقالية لا بد من أن تمر بها الدول التي تشهد انتفاضات شعبية، وقد تطول أو تقصر هذه المرحلة وفق الوضع السائد في كل بلد. فعندما يتحرك المجتمع ليضع حداً للاستبداد السياسي والركود الاجتماعي، طبيعي أن تحدث فوضى وتتفاقم الأخطار وتتراجع معدلات النمو الاقتصادي. فالأوضاع في تونس ومصر اليوم شبيهة بما حدث في إندونيسيا عام 1998 عندما أطاحت الثورة الشعبية بالرئيس سوهارتو بعدما حكم البلاد ل 31 سنة، وخلال السنتين اللتين تلتا تغير النظام، تفاقمت عوامل عدم اليقين وتراجعت معدلات النمو الاقتصادي، لكن مع انتهاء المرحلة الانتقالية هذه، تحسنت الأوضاع في شكل مضطرد، وسُجِّلت معدلات نمو مرتفعة وصلت في المعدل إلى 4.8 في المئة سنوياً خلال الفترة ما بين عامي 2000 و2010، لتعكس الآثار الإيجابية للسياسات الاقتصادية والمالية التي وضعها النظام السياسي الجديد موضع التنفيذ. ولم تنجح برامج الانفتاح والإصلاح الاقتصادي والمالي التي طبقتها الدول العربية تحت إشراف المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في معالجة الاختلالات البنيوية أو في تحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي المنشود. فسياسات التخصيص والتحرر التي وُضعت موضع التنفيذ ساعدت الاقتصاد الكلي على تحقيق معدلات نمو مرتفعة وصل معدلها ما بين عامي 2000 و2010 إلى نحو 1.5 في المئة لمصر، و6.4 في المئة لتونس، فيما سجلت البحرين وليبيا وسورية والأردن معدلات نمو اقتصادي مرتفعة أيضاً. غير أن فوائد النمو للاقتصاد الكلي فشلت في الانسياب إلى أسفل لتطاول شرائح المجتمع كلها، ولم تجعل من القطاع الخاص المحرك الأساسي للاقتصاد، وترافق النمو مع تركز الثروات بين أيدي طبقة محدودة من المواطنين، وارتفعت بالتالي معدلات البطالة بين الشباب وزادت البيروقراطية وتفاقم الفساد. وأدى تغير النظام في بعض دول المنطقة إلى مراجعة العديد من العقود التي أبرمها القطاع العام مع شركات كبرى خلال السنوات القليلة الماضية بهدف ملاحقة الفاسدين والمفسدين. ومع أهمية اجتثاث الفساد، يجب ألا تتحول هذه العملية إلى نقمة عارمة تطاول المقاولين ورجال الأعمال الذين كانت لهم علاقة مع النظام السابق، فطبيعي أن يتعاون هؤلاء مع السلطة القائمة وأن يبدوا الاستعداد للعمل مع العهد الجديد. ويحرم تطهير الإدارة من عناصرها الفاعلة لأنها كانت من رموز النظام السابق، البلاد من خبرات وطنية يصعب تعويضها. وتبرز أهمية قيام نموذج اقتصادي جديد يجمع بين فاعلية اقتصاد السوق وتحقيق مقدار أكبر من العدالة الاجتماعية ومشاركة فاعلة لشرائح المجتمع كلها في العملية التنموية. ويساعد نموذج كهذا في تطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة ويؤمّن لها مصادر تمويل وصناديق تأمين ضد أخطار الإفلاس أو تعثر الديون، ويشجع الرياديين والحرفيين والمهنيين. وحالياً لا تحصل هذه المنشآت في دول المنطقة على أكثر من ثمانية في المئة من إجمالي الائتمان المصرفي، وهذه النسبة أقل بكثير من المعدلات العالمية. وفي دول مثل تركيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة، نجد أن نحو 90 في المئة من اليد العاملة تُستخدم في المنشآت الصغيرة والمتوسطة، فاستثمار 10 بلايين دولار لبناء مصفاة بترول، مثلاً، يؤمّن نحو ألف فرصة عمل جديد، في حين أن استثمار المبلغ ذاته في مشاريع صغيرة ومتوسطة يؤدي إلى استخدام نحو 500 ألف عامل بسبب الروابط التي تتمتع بها هذه القطاعات. وظهرت أخيراً فجوة بين توسع نشاطات القطاع العام وتقلصها بالنسبة إلى القطاع الخاص في معظم دول المنطقة، وسجلت موازنات هذه الدول كلها زيادة كبيرة في الإنفاق الحكومي، خصوصاً الجاري منه، بعد إدخال حزمة نفقات لتحسين معيشة المواطنين، سواء في شكل مباشر من طريق إيجاد فرص عمل جديدة في المؤسسات الحكومية لتقليص معدلات البطالة المرتفعة أو بسبب إبقاء الدعم لأسعار السلع والخدمات لتجنب مزيد من التوتر في الشارع. وفي المقابل تراجعت ثقة القطاع الخاص بسبب الأوضاع المضطربة التي تشهدها دول المنطقة، فكثير من الشركات ألغت خططها التوسعية أو أجلتها في وقت لم تتعافَ فيه حركة الائتمان المصرفي، ما انعكس سلباً على القطاعات الاقتصادية كلها، خصوصاً القطاع المالي والعقاري والتجاري إضافة إلى انهيار القطاع السياحي في عدد من دول المنطقة. المطلوب إذاً من الحكومات أن تعيد النظر في سياسات الدعم للمحروقات والسلع الأساسية التي تؤمّنها لشرائح واسعة من المواطنين بصرف النظر عن مستويات مداخيلهم وتوجيهها في شكل مباشر من طريق الدفع نقداً إلى الأسر الفقيرة فقط، وكذلك الحد من الزيادة في أعداد العاملين لدى القطاع العام المتخم بالعمال. فمثلاً، يستحوذ الدعم على ثمانية في المئة من الناتج المحلي في مصر، وهي نسبة تفوق ما يُصرف على التعليم والصحة مجتمعين. والوضع ذاته يشهده الأردن حيث أن قرار الإبقاء على الدعم لتجنب توتر الشارع الأردني فاقم من مشكلة العجز في الموازنة وزاد من مديونية الدولة. والمطلوب أيضاً في هذه المرحلة أن تتخلى الحكومات ولو تدريجاً عن الدور الذي كانت تقوم به في السبعينات كمالك ومشغل وداعم للأسعار ولعب دور أكبر في الدورة الاقتصادية كمراقب ومنظم وراعٍ لقواعد عمل تتماشى مع أنظمة السوق الحرة وأن توجد بيئة تشريعية وتنظيمية جاذبة للاستثمار لا تشوبها عوائق بيروقراطية. ولتعزيز التفاؤل بمستقبل واعد لكل المواطنين، لا بد من إقامة شبكات الحماية الاجتماعية اللازمة، بما فيها التأمين الصحي والضمان الاجتماعي وبرامج تعويض العاطلين من العمل، والتركيز على التدريب وإعادة التأهيل، وتعزيز مفاهيم المبادرة والإبداع في مشاريع شبابية رائدة. يتطلب نجاح عملية الإصلاح الاقتصادي المنشودة وقتاً، ولا بد لسياسات إعادة الهيكلة وخفض الدعم وتقليص فائض اليد العاملة في المؤسسات الحكومية من أن تُنفَّذ في شكل تدريجي ومدروس. وبما أن فوائد عملية الإصلاح هذه قد تأخذ وقتاً، قد ينعكس ذلك سلباً على توقعات شباب الانتفاضة الذين عملوا على تغير النظام لتحسين أوضاعهم المعيشية. فلا بد إذاً من وضع خريطة طريق واضحة تفصل كيفية تحقيق الإصلاحات الاقتصادية المنشودة والبرنامج الزمني المطلوب لها وإقناع الرأي العام بجدواها، والتواصل الدائم مع الحركات الشبابية كي يدعموا عملية الإصلاح ويقتنعوا بأن المستقبل سيكون أكثر إشراقاً وأن التغير المطلوب آتٍ لا محالة وإن كان في شكل تدريجي، والهدف هو تأمين مصلحة الشعب التي قد يتطلب نجاحها بعض الوقت وليس ما يرضي الشارع موقتاً. * رئيس مجلس الإدارة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في «دويتشه بنك» - دبي