يندرج كتاب المفكر علي حرب «ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، من المنظومة الى الشبكة» (الدار العربية للعلوم - ناشرون) في سياق الكتب التي بدأت تصدر تباعاً حول التطورات التي شهدها العالم العربي في اكثر من دولة. جملة قضايا يتناولها الكتاب ابرزها يأتي تحت عناوين مثل: الثورات العربية تغير وجه العالم العربي، قوى جديدة تفتح آفاق المستقبل، الميادين الافتراضية والاوتوسترادات الاعلامية، من البطولات الدموية الى الثورات السلمية... الى قضايا اخرى تتصل بالمجتمعات العربية التي تصنع ديموقراطيتها، بحيث تأفل نماذج وتولد اخرى، الى اعتبار الحراك الثوري يتجاوز الانظمة ومعارضيها، لينتهي بالتبشير بثورات جديدة وثقافة مختلفة تنتقل بنا من نموذج المناضل الى نموذج الناشط. ليس من شك في ان القضايا التي يتناولها علي حرب في كتابه تمس جوهر الحياة السياسية والفكرية الماضية والحاضرة والمستقبلية في العالم العربي. ومن الطبيعي ان تشكل الانتفاضات التي اندلعت منذ اكثر من عام هزة «فكرية وسياسية» لكل مثقف، بل ولكل عامل في السياسة وصولاً الى كل المواطنين في اي مكان من العالم العربي. اختلفت المقاربات في تحليل او فهم الاحداث الجارية، بين مغالاة وتضخيم غير موضوعيين، وبين عدمية وتسفيه للحدث، وبين قراءة ترى الاحداث في حجمها الطبيعي والفعلي، غير مقللة من اهمية هذا الحراك وعدم تضخيمه، وبين وعي للمعضلات البنيوية التي تواجهها الانتفاضات والصعوبات التي تفرضها على مسارها، وهو ما بدأ يتجلى في اكثر من مكان بعد هدوء العاصفة. ليس من الظلم إدراج كتاب علي حرب ضمن الوجهة التي نحت الى قراءة تضخيمية وبعيدة احياناً عن الواقع الحقيقي الذي اندرجت فيه الانتفاضات. ولعل هذا التضخيم يتجلى من خلال اربع قضايا يمكن رصدها جلياً في فصول الكتاب. القضية الاولى تتصل بتوصيف الحدث في كونه ثورة اطاحت النظام، خصوصاً في مصر وتونس حيث يقول: «لا مبالغة بأن عام 2011 حمل توقيع العرب وختمهم بوقائعه وأحداثه. انه كان «عام العرب» بامتياز، فهم اذهلوا العالم بثوراتهم التي جاءت كزلزال اهتزت معه اوضاع راكدة منذ عقود، بقدر ما سقطت انظمة عاتية وهوت أصنام فكرية خاوية. وكان من مفاعيل ذلك ان تغيرت المعطيات وتبدلت التحالفات وانقلبت المعادلات، بقدر ما ظهر فاعلون جدد على المسرح السياسي». هذا من دون التقليل من اهمية كل ما حدث، إلا ان ثمة مبالغة كبيرة في القول إن الثورات اسقطت الانظمة. فما حصل هو إسقاط رأس النظام وليس بنى النظام، والفارق كبير جداً بين الاثنين. وللتذكير فقط، ما حصل في مصر وتونس حسمه النظام نفسه عبر المؤسسة العسكرية التي رأت ان صلاحية الرئيس في كلا البلدين قد انتهت، وان إجباره على الذهاب خير ضامن لاستمرار النظام نفسه. وفي ليبيا واليمن، انشق النظام على نفسه، وختمت الانتفاضة على عودة اقسام اساسية في النظام، من دون ان يطاح ببناه. اما في سورية، حيث يمكن القول ان انتفاضة شعبية حاصلة، لكنها تعاني من تحولها حرباً اهلية... لا يقلل هذا الحكم من الاعتراف بأن الحراك الشعبي الذي شهدته هذه الاقطار فرض هذا التغير في بنى السلطة، ولكن الحراك الشعبي لم يستطع ان يجيّر نضاله الى ثورة تطيح النظام حقاً. السقف الرمزي القضية الثانية التي دأب حرب على التبشير بها منذ اندلاع الانتفاضات، وصفها بالثورات الناعمة، ذات الطابع السلمي البعيد عن الثورات التقليدية المتسمة بالعنف عبر التاريخ العربي. فالديناميكية والتوجهات والاستراتيجية في الثورات هي «التخلي عن منطق العنف والارهاب للعمل على تغيير الاوضاع وتحسين الأحوال، بأساليب ووسائل سلمية، مدنية، تواصلية. والميل الى السلم يقوى يوماً بعد يوم، على وقع الازمات، وعلى نحو تزداد معه القناعة بحاجة البشرية الى الانضواء تحت سقف رمزي خلقي ولكن دنيوي، ارضي، كوكبي، يستبقي او يستنجد بقيم التقى والاعتراف والزهد، فضلاً عن قواعد الشراكة والتوأمة والحماية والرعاية»، كما يقول الكاتب. هنا ايضاً لا بد من التذكير بأن جميع «الثورات» او الانتفاضات لم تكن ناعمة وسلمية، مع التفاوت في العنف المستخدم بين بلد وآخر. ففي مصر اسفرت الانتفاضة خلال الاسابيع الثلاثة عن سقوط 823 قتيلاً، وفي تونس سقط نحو 485 قتيلاً، وفي اليمن وليبيا فاقت الضحايا الآلاف، اما في سورية فشلال الدم متواصل حاصداً العشرات من ابناء الشعب السوري كل يوم. صحيح ان النظام وأجهزته في كل بلد هم من بادروا الى تحويل الحراك الشعبي الى محطات عنفية، لكن المدقق في مجرى الاحداث لا يمكنه ان يتجاهل ان سائر القوى المنضوية في الحراك لم تكن تنقصها الرغبة في استخدام العنف المتبادل. القضية الثالثة التي تخترق كتاب علي حرب تتصل بقوى «الثورات»، وبدور العولمة ونتاجها خصوصاً على صعيد ثورة المعلومات. فمنذ اندلاع الانتفاضات انتشرت بكثافة مقولات تصف الثورات بأنها ثورات «الفايسبوك»، وتنعى في المقابل النمط القديم من الحراك السياسي والاجتماعي الذي يعتمد على الحراك الحزبي وعلى تنظيم القوى الشعبية في اطر تنظيمية، وتعتبرها من المخلفات البائدة لعصر الايديولوجيات. ولم يكن على حرب بعيداً عن معتنقي هذه الوجهة، فهذه الثورات ادت الى «خلع عباءة الايديولوجيات المقدسة بثوراتها ومقاومتها وانقلاباتها وأحزابها، للاشتغال ببناء مجتمعات غنية بإنتاجها، وكسر عقلية النخبة والانتقال الى المجتمع التداولي، حيث كل الناس فاعلون ومشاركون في اعمال البناء والإنماء، وكسر العقليات البيروقراطية المركزية للانتقال الى عصر الشبكات الآنية والكتب الرقمية والمعلومات العابرة والسيالة». ولا يمكن أحداً ان ينكر الدور المهم الذي اضطلعت به ثورة المعلومات في الانتفاضات الجارية، خصوصاً في كسر حاجز منع ايصال المعلومات، بحيث امكن التقنية الحديثة ان تؤمن معرفة وتواصلاً يطاول كل المناطق من دون استثناء. وصحيح ايضاً ان العنصر الشبابي كان حاسماً في اطلاق شرارة الانتفاضات، ولكن ما يجب التشديد عليه ان هذه الانتفاضات ما كان لها ان تندلع لو لم تكن الارض مهيأة لاستقبال شعارات الحرية والكرامة وصولاً الى إسقاط النظام. فالبلدان التي انفجرت فيها الاحداث تعاني تخلفاً وتهميشاً وفقراً وبطالة، وكلها مقرونة باستبداد وقمع للحريات... كلها عوامل اساسية وموضوعية سمحت بنجاح الحراك الشعبي. وليس صحيحاً ان الثورات التي حصلت هي ثورات «الفايسبوك» والانترنت. انه الاحتقان الشعبي الذي امكنه الافادة من التقنية الحديثة في تفجير هذا الحراك. بل نذهب الى انه لو لم تكن هذه المجتمعات تعاني هذا الحجم من القهر والاضطهاد، لما امكن تقنية العولمة ان تفعل ما فعلته. تفتح النقطة السابقة على القضية الرابعة المتصلة بقوى الحراك. في هذا المجال يجب التشديد على اهمية ما تقدمه ثورة الاتصالات في خدمة الحراك، ولكن في المقابل، فإنّ حشوداً قد تصل الى الملايين مسجلة على مواقع التواصل الاجتماعي، تدعو الى الثورة والتغيير، لن تكون ذات فاعلية على الارض بمقدار مئات من الناشطين تتصدى لعنف الاجهزة الامنية بصدورها وتقدم الضحايا في سبيل هذا التغيير. هذه مسألة اساسية يغيبها علي حرب وغيره من المثقفين، مستبدلين اياها ب «القوى الناعمة والرقمية» التي سيقوم على عاتقها تغيير المجتمعات. في اي حال تثبت وقائع الانتفاضات الجارية، والتي سيشهدها العالم العربي، ان العنصر المقرر في الحسم يرتبط وثيقاً بحجم القوى الموجودة على الارض، فيما تشكل «القوى الرقمية» العنصر المساعد، ولعل تحقيق اهداف الانتفاضات سيظل مرهوناً ببناء القوى السياسية والاجتماعية عبر التنظيمات والاحزاب وبلورة ثقافة التغيير، وتغيير ميزان القوى. زلزلت الانتفاضات الكثير من العقول، وتركت آثاراً في وسط النخب المثقفة، التي غالت كثيراً في قراءة نجاحاتها. ومنذ ان بدأت تنجلي عن صعود قوى تنتمي بفكرها الى الماضي، وتكتشف ان الوقائع لم تجر وفق مشتهاها، بدأنا نلمس تحولاً عن هذه الانتفاضات وكتابة سلبية عنها، والذم بها. هذا الانعدام في فهم بنى المجتمعات العربية والصعوبات التي تضعها في وجه التغيير، وقراءة النتائج بمنظار الواقع وليس الأوهام والأحلام الوردية، هي التي تحوّل تضخيم الحدث الى إحباط ويأس.