على مدى أربعين عاماً، ظل الشاعر حبيب الصايغ يحرث أرض الشعر حتى أوصلنا إلى هذا الحصاد الذي جمعه أخيراً في «الأعمال الشعرية» في مجلدين (اتحاد كتاب وأدباء الإمارات) وضمت عشرة إصدارات شكلت مجمل ما أنجزه خلال مساره الشعري. ولعل الحديث عن منجز شعري بهذا الحجم، لا يمكن أن يشبه الحديث عن ديوان أو مجموعة شعرية واحدة، فالأمر هنا يتعلق بعمر شعري طويل، ودورة حياة شعرية شهدت مراحل عدة تنقّل فيها الشاعر عبر تصاعدية لافتة، وهو يجر عربة القصيدة إلى حيث يريد الشعر ويشتهي. ومن خلال قراءة عامة لهذا المنجز، ندرك ذلك الصعود الذي حققه الصايغ عبر كتاباته الأولى التي امتدت من كتابه الشعري الأول «هنا بار بني عبس الدعوة عامة» حتى كتابه الأخير «أسمي الردى ولدي»... شأنه في ذلك شأن الكثير من الشعراء الذين تَوّجت قصائدُهم أسماءهم، فعاشوا واقعهم بامتلاء، بعد أن طوروا كتاباتهم وبدأوا بالصعود من قمة شعرية إلى أخرى، فأصبح الشعر بالنسبة الى هؤلاء الواقع الأوحد، والطريق المعبّد للسير على صراط الحياة. الصايغ في هذا المنجز، يضع نفسه مع هؤلاء الذين انشغلوا بهَمِّ الشعر، واشتغلوا على تطوير أدواته، فهو بدأ شاعراً متمرساً وظل كذلك، ليصل اليوم إلى هذه المكانة الشعرية المتقدمة، على خلاف الذين بدأوا مسيرتهم الشعرية متمرسين وانتهوا إلى كتابة كل ما هو متواضع وربما رديء في بعض الأحيان، بعد أن ثقلت موازين قصائدهم بالتكرار والجمود، واستندوا في كتاباتهم إلى جدار أسمائهم التي كرّسها المشهد. وهو ما نجا منه الصايغ مع عدد من شعراء جيله، بحيث ظل حريصاً وقادراً على الكتابة والعطاء الشعري المتميز، إلى أن شكلت أعماله مرجعية شعرية لمن أتوا بعده من أبناء وطنه. وفي كتابه الأخير «أسمي الردى ولدي» يعكس تلك القدرة على الاشتباك بالواقع الحياتي من خلال الشعر وعين الشاعر التي تعرف تماماً أين ترمي سهامها لتطاول فرائس الكلام والقول، وكذلك الحال بالنسبة الى مجمل دواوينه، ومنها على وجه الخصوص «كسر في الوزن» الذي يغوص به الشاعر في عوالم ومناطق شعرية خضراء، ويلتقط فيه صوره بعدسة الشعر الذي يطرزه برؤية تتقاطع مع فضاءات الفلسفة واللغة ودلالاتها. ومن خلال ذلك كله نجده يؤثث عالمه بالعبارة الشعرية المتفردة، مستدرجاً المعنى إلى مساحات التأمل، ليمنح قارئه الدهشة وربما القشعريرة التي أشار اليها هاوسمان، معبراً عن فهمه للشعر، الذي لا يحتاج إلى قالب تعريفي جامد أو مغلق، تماماً كما عبّر محمود درويش عن فهمه الخاص للشعر، بقوله: «الشعر ما هو؟ هو الكلام الذي نقول حين نسمعه أو نقرأه: هذا شعر، ولا نحتاج إلى برهان». الكتابة المتعددة وهذا يقودني الى القول إن من أبرز ما يميز تجربة الصايغ هو تحرره من كل قيد، أو توجّه في شكل الكتابة، فهو يكتب قصيدة النثر والتفعيلة وصولاً إلى قصيدة العمود التي ظلت حاضرة حتى في أعماله الأخيرة، وهو ما يؤكد تجاوزه لكل ما هو خارج متن المعنى أو الفكرة التي تؤسس للمضمون الشعري، بعيداً من تفاصيل شكل القصيدة وبنائها. ولعل ما يتميز به الصايغ أيضاً هو إخلاصه الدائم للشعر، فهو لم يتوقف يوماً عن الكتابة الشعرية على رغم عمله المتواصل والفاعل في الشأن الثقافي الإماراتي والعربي عموماً، بحيث يرأس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ويدير مركز سلطان بن زايد للثقافة والإعلام إلى جانب بيت الشعر في أبو ظبي ومؤسسات ثقافية وإعلامية، إضافة إلى أنه لم يتحول إلى الكتابة خارج مساحات الشعر كما هو حال الكثير من الشعراء في الوطن العربي، وظل محاطاً بمفردات بيئته حيث تحضر الصحراء ويحضر البحر ويحضر الشعر قبل كل شيء... «يدان تطوفان رمل الصحراء/ ورمل البحر/ يدان من الماء والرمل / والتمنيات»... يكتب الصايغ قصيدته بالماء، فيمنح العبارة لوناً وشكلاً ومذاقاً وحياة، ويمنح الكلام صوتاً، وعيناً، ويداً، ليلملم من خلال ذلك مشهده الشعري المتعدد في مساحات كثيرة، فنجده تارة يتحدث عن الهم الجمعي، كما يبدو ذلك ماثلاً في البدايات، والكثير من قصائده في مختلف مجموعاته الشعرية، خصوصاً تلك التي يتحدث فيها عن بغداد وفلسطين ومصر والكويت وغيرها من الأوطان التي شكلت وقود الوعي بالنسبة الى كثير من شعراء الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي وما بعد ذلك أيضاً. ثم ينتقل في ما بعد للحديث عن ذاته، وما يعايشه، تماماً كما هو الحال في حديثه عن الموت الذي شاكسه كثيراً في كتاباته الشعرية الأخيرة، فتارة سوّاه ولده، وأخرى تعالى عليه بدلالات شفافة استطاع من خلالها أن يعيد وهج الحياة في مشهديّة شعرية عالية: «لا سماء سوى ما انتهى/ فدعيني أقل ما أشاءْ/ مرةً/ حين داهمني الموتُ/ أبصرتُ ما لا يُرى/ السمّاء التي في السّماءْ»... هكذا يرتّب الصايغ عالمه، بالمفارقة الشعرية، وإيقاعه العالي، واستشرافه الآتي عبر المزاوجة ما بين الخيال والواقع. الخيال الذي هو بداية الابتكار كما قال برنارد شو. فهو في كتاباته يبتكر ويتجدَّد عبر تلك المخيلة التي ينهل منها رؤيته وفكرته ليبدأ في الصعود إلى أعلى جدار الشعر، ناحتاً قصيدته هناك. وإذا كان الشاعر رسّاماً بالضرورة، فإن الصايغ في بنائه الشعري يتقن تشكيل اللوحات، وزخرفة اللغة، في فسيفساء باذخة الجمال، كذلك يفعل في قصيدة «رسم بياني لأسراب الزرافات» وهو يرسم حديقة شعرية كثيرة الأشجار. ومن أدق التفاصيل، ينسج الصايغ جمله ورؤاه، موغلاً في الدلالة والوصف، بأقل مساحة ممكنة من الكلام، مانحاً من حوله حرية التفكّر في مقاصده وقصائده: «وعلى غير عادتها في الحياة/ تموت أشجار المشمش مستعجلة / حتى لا تؤجل موت اليوم إلى الغد»... يبقى القول إن هذا المنجز يضيف إلى المشهد الإماراتي رصيداً شعرياً مهماً، ويلفت إلى ما حققته الثقافة الإماراتية خلال العقود القليلة الماضية، كما يُحدث مقداراً من التوازن بين جغرافيات الثقافة العربية، بعد تفوّق بعض منها على الآخر لظروف كثيرة، وخصوصاً في حقل الشعر.