أكد وزير العدل السعودي رئيس المجلس الأعلى للقضاء الدكتور محمد العيسى أن الدولة ماضية في حماية استقلال القضاء، وترى في ذلك ضمان عدالته، كما أنه أساس بنيان الدولة وضامن استقرارها. وطالب أثناء حديثه عن «المحاماة» التي يعتبرها البعض أحد الأركان الضامنة للعدالة، بوجوب التفريق بين المهنة ومن يمارسها «فالخطأُ - إذا حصلَ - مسؤوليةٌ قاصرةٌ على صاحبِها ولا تتعدى لسمعةِ المهنةِ». ورأى أنه لا يكفي المحامي أن يكون دارساً للقانونِ، «بل لا بدَّ من أن يتمتَّعَ بأخلاقِ وسلوكياتِ هذه المهنةِ المهمةِ الموكلِ إليها حماية الأفرادِ والمؤسساتِ والحقوقِ والحرياتِ المشروعةِ أمامَ القضاء». جاء ذلك في افتتاحيته عدد مجلة «العدل» ال 53 الذي يتزامن صدوره مع جدل واسع، تشهده الأوساط السعودية، حول القضاء وبعض التصريحات الإعلامية التي تناولته، وكانت مثار نقاش وسجال بين أطراف عدة. وقال العيسى: «سبق أن بينا في كلمة العدد الثاني والخمسين لهذه المجلة ما أوضحناه للمؤتمرين في الملتقى الخامس الخمسين للاتحاد الدولي للمحامين المنعقد في الولاياتالمتحدة الأميركية، ونكمل في هذه الكلمة بقية ما تحدثنا عنه لذلكم الحشد الحقوقي، إذ بينا لهم أنَّ العدالةَ السعوديةَ تتعهدُ بعدمِ ستطاعةِ أحدٍ أن يمسَّ الحقوقَ والحرياتِ المشروعةَ في ظلِّ قضائِنا العادلِ المحمي بقوةِ الدولةِ ودعمِها، وقلنا: إنَّ الدولةَ ترى أنَّ القضاءَ العادلَ باستقلالِه في أحكامِه وضماناتِ عدالتِه أساسُ بنيانِها وضامنُ استقرارِها، ولذلك أعطت القضاءَ والقضاةَ من الاستقلالِ والضماناتِ والتشريعاتِ والدعمَ المفتوحَ ما جعلَ من قضاءِ المملكةِ أنموذجاً في معاييرِ العدالةِ والحيادِ والقوةِ والمهابةِ، وبلغَ من قوةِ عدالتِه استقرار مبادئِه على التعويضِ عن بعضِ وقائعِ أعمالِ السيادةِ مع احترامِ القرارِ السيادي الذي يهدفُ إلى تحقيقِ المصلحةِ الوطنيةِ، كما بلغت عدالته تعويض المضرورِ عن عملِ الدولةِ من دونِ خطأ، وهو ما يسمى بنظريةِ المخاطرِ، أعني المسؤوليةَ الإداريةَ من دون خطأ، من أجلِ الحفاظِ على التوزانِ بين حقوقِ الأفرادِ وامتيازِ الإدارةِ». وروى الوزير أنه أعلن أمام الحقوقيين الأميركيين في جولاته التي اختتمها قبل بضعة أسابيع أن «اختلافَ الأديانِ والمذاهبِ والأفكارِ لا وزنَ له ولا اعتبارَ في معاييرِنا القضائيةِ، وبما أنَّ المملكةَ تأخذُ بمفهومِ القضاءِ المزدوجِ فإنَّ القضاءَ الإداري يعملُ على مبادئَ قضائيةٍ قويةٍ وعادلةٍ، فالقاضي الإداري يستشعرُ حجمَ الطرفِ الآخَرِ في المرافعةِ، وهو الدولةُ فهو يمارسُ صلاحياتٍ أوسع لا تتوافر للقاضي العادي، من أجلِ توفيرِ أكبرِ ضمانةٍ لحقوقِ الأفرادِ من تعسفِ الإدارةِ، وفي المقابلِ لحمايةِ سمعةِ الإدارةِ ومراقبةِ مشروعيةِ قراراتِها، ولا يمكن أن يشايعَ القضاءُ أيَّ جهةٍ إداريةٍ على حسابِ موازينِ العدالةِ أياً كانتْ هذه الجهة. ونأملُ دوماً من كلِّ محايدٍ ومنصفٍ أن يسألَ العدالةَ السعوديةَ عن أيِّ إشكالٍ يَرِدُ على خاطرِه، وألا يسير في طريقِ الخطأِ من أولِ خطوةٍ عندما يحكمُ على الأشياءِ من طرفٍ واحدٍ، ربما يكون متورطاً في ممارسةٍ مخلةٍ بالنظامِ أو واهماً في تصوره، ويجبُ أنْ نعلمَ أنَّ الذي يخرجُ من العدالةِ هم اثنان، أحدُهما راضٍ، والآخرُ ساخطٌ، وغالباً ما يكون صوتُ الساخطِ عالياً، ولا سيما إذا وجدَ من يسمع له وحده، وكلنا نؤمنُ بأنه إذا كان من واجبِ الجهاتِ التنفيذيةِ والخدميةِ إرضاء الجميعِ فإنَّ من واجبِ القضاءِ العدل بينهم لا إرضاؤهم». وعبّر هنالك - كما قال - عن تقدير وزارته المهنةِ المحاماةِ «باعتبارِها تمثِّل الطرفَ الآخَرَ في توصيفِ العدالةِ، وهو القضاءُ الواقفُ، وقلنا: إنَّ المحاماةَ من أهم أعوانِ القضاءِ، وأنها شريكُه المصاحبُ في إيصالِ العدالةِ، وأنَّ للمحاماةِ تأثيراً مهماً في القضاءِ، وأنها مهنةُ الحريةِ والكرامةِ والكفاحِ، وظيفتُها حمايةُ الحقوقِ، ووسيلتُها الكلمةُ الصادقةُ، وسندُها التشريعُ. وقلنا: يجبُ أنْ نُفرِّقَ بين المهنةِ ومن يمارسها، فالخطأُ - إذا حصلَ - مسؤوليةٌ قاصرةٌ على صاحبِها، ولا تتعدى لسمعةِ المهنةِ، ولا يكفي أن يكونَ المحامي دارساً للقانونِ، بل لا بدَّ من أن يتمتَّعَ بأخلاقِ وسلوكياتِ هذه المهنةِ المهمةِ الموكلِ إليها حماية الأفرادِ والمؤسساتِ والحقوقِ والحرياتِ المشروعةِ أمامَ القضاءِ من أن يطاولَها تعسفٌ أو ظلمٌ أو مصادرةٌ، وقد أثبتت المحاماةُ في بلادِنا أنها على قدرِ القيامِ بهذه المسؤولياتِ الجسميةِ وساعدها على ذلك قضاءٌ عادلٌ وتنظيماتٌ عادلة». لكن العيسى حذّر من أن زمن بلاغةِ وفصاحةِ المحامي أمامَ منصةِ القضاءِ ولّى، إذ «أصبحت التقنيةُ تتعاملُ مع الحقائقِ لا التحكم في العباراتِ وفاعليةِ سحرِها وتأثيرها في الأسماعِ، ونحن في المملكةِ على وشكِ اعتمادِ المرافعةِ الإلكترونيةِ، فالتقنيةُ خدمتنا كثيراً، وقد حصدنا بسببها المركزَ الأولَ عالمياً في سرعةِ تسجيلِ الملكيةِ العقاريةِ، إذ اختزالنا بهندسةِ الإجراءاتِ وتقنيتِها الكثيرَ من الخطواتِ التي تزيدُ من التعقيدِ والإطالةِ، ولدى وزارتِنا حالياً أكثر من 50 خدمةٍ إلكترونيةٍ مهمةٍ جداً يمكنُ الاستفادةُ منها عن طريقِ موقعِ الوزارةِ الإلكتروني، وننوي زيادَتَها في الأيامِ القريبةِ المقبلةِ». وحول التشريعِ الجنائي أكد - في سياق حديثه مع الحقوقيين في الغرب - أن هذا الجانب «يَعتمدُ في المملكةِ على أحكامِ الشريعةِ الإسلاميةِ، والعديدِ من الأنظمةِ، والمبادئِ القضائيةِ، وهو ينظرُ للجريمةِ باعتبارِها سلوكاً خاطئاً في المجتمعِ، ويقدر ظرفَها المخففَ وظرفَها المشددَ بحسبِ الظروفِ والأحوالِ، وأوضحنا أنَّ القضاءَ يُفرقُ بين العملِ المدني الضارِّ، والعملِ الإجرامي، فهو يرى أنَّ الأولَ يولِّدُ خوفاً له بعدٌ خاصٌّ، وتنشأ عنه مسؤوليةٌ مدنيةٌ بحتةٌ، فيما يرى أنَّ الثاني يولِّدُ خوفاً له بعدٌ عامٌّ، ويُرَتّب مسؤولية جنائية. وأوضحنا أنَّ قضاءَ المملكةِ يعاقبُ على الجريمةِ الإرهابيةِ بعقوبةٍ جسيمةٍ، آخذاً في اعتبارِه ظرفَها المشددَ، وانطواءَها على جرائمَ عدةٍ بحسب التكييفِ الذي استقر عليه النظرُ القضائي، لأبعادِها الخطرةِ التي تصفها بالجريمةِ الفوقيةِ في التدرجِ الإجرامي. وأنَّ قضاءَ المملكةِ حازمٌ في موضوعِ جرائمِ تمويلِ الإرهابِ، معتبراً إياها جرائمَ ذاتية، فهي تقعُ ولو لَمْ يُرتكبْ على إثرِها عملٌ إرهابي، وركنُها المادي يتحققُ بمجردِ تقديمِ المالِ أو جمعِه وإدارتِه». تعهُّد جديد بنشر الأحكام ومبادئها... تعزيزاً للوضوح