تشي الاشتباكات المسلحة الأخيرة في مدينة طرابلس اللبنانية أن التعبئة، في مناطق طرابلس والضنية وعكار السنية والداعمة للثورة السورية إلى تزايد، وأن قدرة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي على فرض سياسة «النأي بالنفس» إلى انحسار. هذه الأحداث تؤشر أيضاً إلى تحوِّل في موازين القوى الداخلية، مع بروز وجود سنّي مسلَّح في الشمال يتحدى الوجود العسكري لحزب الله في بيروت والبقاع والجنوب الذي يهمين بدوره على الحكومة الحالية. كما أن الأحداث الأخيرة تبين أن شمال لبنان بدأ يصبح منطقة دعم متنامية للثورة السورية، ما قد يدشِّن حقبة جديدة من التوترات الداخلية اللبنانية وأيضاً التوترات السورية - اللبنانية. كانت اشتباكات نهاية الأسبوع حصيلة تقاطع جملة من العوامل، وإن كان الصاعق فيها هو اعتقال شادي المولوي، الشاب الإسلامي الطرابلسي الداعم للثورة السورية، بتهمة الارتباط بتنظيم القاعدة وشبكات ارهابية. وحتى قبل اعتقال المولوي، كانت المجموعات السلفية والإسلامية في طرابلس تحتج على توقيف إسلاميين من دون محاكمة لمدة خمس سنوات. ولذا حين اعتقل المولوي، كان السيل بلغ الزبى لديها. وهكذا، عمد السلفيون إلى الاعتصام في ساحة طرابلس الرئيسية وانتشر المسلحون في العديد من أحياء المدينة. وأتى الاعتقال أيضاً بعد اشهر من المناوشات المسلحة المتقطعة بين منطقة جبل محسن العلوية ومنطقة باب التبانة وغيرها من احياء طرابلس السنية والغارقة في العوز والحرمان. صحيح أن هدوءاً حذراً عاد إلى المدينة بعد بضعة أيام، إلا أن أسباب التناقض والتوتر مستمرة، وقابلة للاشتعال من جديد في أي لحظة. إن الطريقة التي اعتقل فيها المولوي زادت بدورها من وسع وحدة ردود الفعل. فالتوقيف نفَّذته مديرية الأمن العام المقربة بقيادتها من حزب الله، وهو تم في قلب مدينة طرابلس في مكاتب تابعة للوزير محمد الصفدي، ما استفزَ أهالي المدينة من مشارب سياسية عدة. وبهذه الخطوة، كانت مديرية الأمن العام المنوط بها السيطرة على الحدود والموانئ البحرية والجوية، تتعدى أيضاً على صلاحيات الشرطة والأمن الداخلي، وتُغضب قيادتي الجيش والاستخبارات العسكرية اللتين لم تبلّغا مسبقاً بالعملية، مع أنه تعيَّن عليهما التعامل مع مضاعفاتها. لقد قذفت هذه العملية، وما تلاها من تطورات، حكومة الرئيس ميقاتي إلى وضع حرج جداً. فسياسة النأي بالنفس تنهار، فيما تقوم مديرية الأمن العام بملاحقة الناشطين المطلوبين من سورية، وفيما الشارع السنِّي يعبّر بوضوح عن دعمه للثورة السورية. والحال أن التطورات الأخيرة طرأت جنباً إلى جنب مع تقارير تتحدث عن ضغوط متصاعدة تمارسها الحكومة السورية على ميقاتي لدفعه إلى اتخاذ موقف إلى جانبها في الأزمة السورية. حتى الآن، لا يزال يتمسّك الرئيس ميقاتي بسياسة النأي بالنفس، ولكن أرضية الوسطية تتآكل مع تفاقم اصطفاف الطوائف اللبنانية مع وضد الانتفاضة السورية. يمكن اعتبار استعراض القوة السنّي في شمال لبنان ردّاً متأخِّراً على سيطرة «حزب الله» على بيروت في أيار (مايو) من العام 2008. آنذاك، سحق «حزب الله» المجموعات السّنية المسلّحة، واستعرض تفوّقه في العاصمة، مُضيفاً إياه إلى السيطرة التي يفرضها على منطقتي الجنوب والبقاع. كما استخدم قوّته في ما بعد لإسقاط حكومة سعد الحريري في كانون الثاني (يناير) 2011، وتشكيل حكومة يتمتّع بمزيد من السيطرة عليها. فتسعى المجموعات السنّية في طرابلس إلى تغيير هذه الموازين وتستخدم الاستراتيجية ذاتها التي استخدمها حزب الله، اي تسخير السلاح والشعارت الدينية والدعم الخارجي، لتُقيم هي الأخرى منطقتها الخاصة و»مربعاتها الأمنية». وحزب الله الذي لا يملك قوات له شمال بيروت، لا يستطيع الوصول إلى هذه المجموعات، كما أن الدولة اللبنانية المستضعفة لا تستطيع فرض سلطتها بالقوة. لذا، يتحدّث بعض المعلِّقين عن بروز «ضاحية شمالية» سنيَة مقابل «الضاحية الجنوبية» التابعة لحزب الله. إذا تواصل سير الأمور في هذا الاتجاه، فسيسفر عن تداعيات خطيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي، قد لا يؤدّي هذا التوتّر إلى إسقاط الحكومة وحسب، بل قد يزيد ايضاً من التوترات الأمنية في العاصمة. كان «حزب الله» يتمتّع بوضع مريح إلى حدّ ما منذ العام 2008، لكنه سيبحث عن سبل لمواجهة هذا التحدّي الجديد. وحتى الآن، لا تزال المناطق المسيحية تقف كمنطقة عازلة بين الشمال السنّي وبين العاصمة والجنوب. إلا أن الأحزاب المسيحية المختلفة التي تتحالف والأطراف المُتعارِضة في هذا النزاع، قد تخضع بدورها إلى الضغط لاتّخاذ مواقف أكثر حزماً. لكن مع أن العودة إلى المواجهات الطائفية في لبنان، بما يتعدّى المناوشات السنّية-العلوية في منطقتي باب التبانة وجبل محسن في طرابلس، لا تزال تبدو احتمالاً بعيداً، ما من شكّ في أن التوتّرات الداخلية تتصاعد. أما على الصعيد الخارجي، فقد تتسبّب تعبئة الشمال اللبناني دعماً للثورة السورية بردٍّ من النظام السوري. الواقع أن الشمال اللبناني يُجاوِر مدينتَي حمص وحماه الاستراتيجيتين، ويُتاخِم أيضاً منطقة العلويين الاستراتيجية في شمال غربي سوريا. وقد تمكّن نظام الأسد من بسط سيطرته على شمال لبنان طوال الفترة التي سيطرت فيها قوّاته ومخابراته على البلاد حتى انسحابها في نيسان (أبريل) 2006، إلا أنه فقدها بعد ذلك، ولم يتمكن «حزب الله» من الحلول محلّ النفوذ السوري في الشمال. وجدير بالذكر أن الحدود اللبنانية-السورية سبق أن شهدت تصعيداً في الأسابيع والأشهر السابقة، حيث أطلقت القوات السورية النار على الأراضي اللبنانية أو دخلتها موقّتاً في بعض الحالات. فيبقى أن ننتظر لنرى ما إذا كان النظام السوري المُحاصَر سيردّ على التعبئة المتنامية في شمال لبنان بتصعيد اكثر شمولاً وحدَة. لقد عاد الوضع في طرابلس حالياً إلى هدوء حذر، إلا أن التناقضات والتغيرات في موازين القوى التي عكَسَها، ستكون لها تداعيات على المدى الطويل. فلا عجب ربما، في ضوء الروابط الاجتماعية والطائفية الوثيقة التي تجمع البلدين، ألا يبقى لبنان قادراً على النأي بنفسه عن الأحداث الجارية في سورية. لذا، من الملحّ أن يجهد القادة في لبنان لإيجاد طريقة لمعالجة هذه الديناميكيات الجديدة معالجةً سياسية وتجنب العودة إلى الفوضى الأمنية وفقدان الاستقرار. كما يقع على عاتق القادة في المنطقة والعالم أن يعوا مدى حساسية الوضع اللبناني وتقلُّبه، وأن يعملوا على صون الاستقرار في لبنان، مُضاعفين جهودهم في الوقت عينه للحثّ على إحداث تغيير سياسي إيجابي في سوريا، يعطي السوريين حقوقهم الطبيعية من دون الولوج في حرب أهلية طويلة ومُدمِّرة هناك. وفي الختام تعكس الأحداث في طرابلس حقيقة أن أي حرب أهلية في سوريا لن تبقى ضمن حدود البلاد بل قد تتخطاها إلى لبنان وربما بلاد أخرى. * مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت - لبنان