بعد انقضاء أربعة عشر شهراً من الأزمة في سورية، يبدو المشهد العام وكأنه يتجه إلى «إدارة أزمة» أكثر منها عملية حسم بين النظام والثائرين عليه في وقت قريب. ولأن الشرارة التي أطلقت ثورة الثائرين في سورية بوجه نظام بشار الأسد لم يتم تصعيد وقائعها الدرامية كي تقف الآن وعند هذا الحد، أي المكان الذي بلغته حتى الآن وكأنها تستعير الشعار اللبناني الذي بقي شعاراً وهو «لا غالب ولا مغلوب». ويُستدل من تواصل المواجهات واتساع رقعتها ان المعركة ستطول إذا لم يظهر أي عامل مفاجئ يغير المعادلة القائمة حيث لن ينتهي الأمر بموقف ضبابي مائع، بل إلى وجود مغلوب ومغلوب أكثر، ولا مجال لوجود غالب إلا من الوجهة الثأرية. ومرة جديدة تؤكد أحداث سورية سقوط جميع الرهانات التي اشعلت شرارة الأحداث والصراع ما زال على أشده بين «الحل الأمني» و «الحل العربي والدولي». ما الذي يحدث في سورية هذه الأيام؟ يحدث ان كل شيء «ماشي». فالحرب مستمرة ومتواصلة و «الاصلاحات» المقترحة من جانب النظام ماشية أيضاً. وكأن الوضع «هادئ جداً» وطبيعي ما خلا بعض الجيوب والعناصر غير المنضبطة التي تعيث في الأرض فساداً وفق قاموس ومفردات النظام وأهله. والعالم كله (تقريباً) يطالب بصرف رئيس الجمهورية العربية السورية من الخدمة، والنظام ماضٍ في «تسيير» شؤون الدولة. وأعمال القتل في سورية ما زالت على ما هي عليه والفارق الوحيد هو تواصل أعمال القتل في حضور المراقبين الدوليين كما كان عليه الوضع قبل وصول هؤلاء المراقبين، والذين تعرض موكبهم يوم الخميس الفائت إلى متفجرات خلال توجههم بقيادة قائد الفريق الجنرال مود في درعا الذي أكد استمرار أعمال العنف، داعياً السوريين – جميع السوريين - للاجتماع في ما بينهم والعمل على حل الإشكالات القائمة. لكن لو كان بإمكان السوريين على اختلاف مشاربهم اللقاءَ والبحث في مخرج للأزمة لم يكن الأمر في حاجة إلى وجود المراقبين الدوليين وصاحب المبادرة العربية - الأممية كوفي انان يحذر قائلاً: «إنها الفرصة الأخيرة لتفادي حرب أهلية قد تؤثر على المنطقة بأكملها». وحذر الأمين العام السابق للأمم المتحدة من ان مهمته «ليست فرصة مفتوحة إلى ما لا نهاية، وربما يأتي يوم يتعين فيه تبني «نهج مختلف» عن خطته». وتقضي مهمة كوفي انان بالسير في حقل من الألغام لا يعلم هو وغيره متى تنفجر فيهم، عاملاً على دراسة كل كلمة يصرح بها كي لا يفهم منها انحيازه لفريق النظام أو لفريق المعارضة والثوار كالقول على سبيل المثال: «ان الوضع لا يمكن ان يستمر من دون تحميل القوات الحكومية والمعارضة على السواءَ مسؤولية تواصل العنف». لكن هل ان تفجيرات درعا ترمي إلى اغتيال خطة انان؟ على ان التحذير من سقوط سورية في فخ الحرب الأهلية يبدو وكأنه احتمال بعيد، فيما الأحداث اليومية تؤكد وجود هذا النوع من الحروب ولو في شكل غير معلن، فما يجري من تصفيات واقتتال في مختلف المحافظات السورية أليس هو نوع من الحرب الأهلية؟ وما هي مواصفات الحرب الأهلية أكثر من انقسام الناس والنظام على أنفسهم وعلى بعضهم البعض، وبخاصة التفجيرات المريعة التي حصلت في قلب دمشق في الساعات الأخيرة بما يذكر ب «العرقنة». وفيما يتصرف النظام وكأنه الأمر لا يعنيه كاجراءَ الانتخابات البرلمانية وإعلان التركيب الجديد لمجلس الشعب، والسؤال: إلى أي مدى ستكون نتائج هذه الانتخابات هي صالحة ومقبولة وشرعية من جانب القوى المعارضة؟ وإذا خرجنا قليلاً من سورية إلى الديار العربية المجاورة لمعرفة ما الذي يجري فيها هذه الأيام لوجدنا ما يأتي: وضع في العراق متفجر ينقلب فيه نائب الرئيس على رئيس الحكومة نوري المالكي. ويتطور الأمر إلى إصدار دوائر «الانتربول» مذكرة توقيف بحق نائب الرئيس العراقي – حتى كتابة هذه السطور - طارق الهاشمي والذي اتهمه رئيس الوزراءَ المالكي بالضلوع في عمليات إرهابية استهدفت مسؤولين عراقيين. ولجأ الهاشمي إلى كردستان العراق حيث لقي كل ترحيب، وهو الآن في تركيا، التي رفضت طلب «الانتربول» تسليم الهاشمي مهما كلف الأمر. ويبدو ان السيد رجب طيب أردوغان قد أسقط في يده في ما يتصل بأحداث سورية ولم يتمكن من تنفيذ مخططه، لذا يلاحظ تراجع الدور التركي في هذه القضية بانتظار تطورات أخرى – ربما - يمكن أن تحدث على الصعيد الإقليمي. في هذا الوقت شهدت العاصمة اللبنانية في الأيام القليلة الماضية «مطاردة إيرانية - أميركية وتجلت بوجود نائب الرئيس الإيراني حسن رحيمي، ومساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان (اياه)، فبدا المشهد فولكلورياً بعض الشيء من حيث مقابلات المسؤولين الإيراني والأميركي إلى المسؤولين اللبنانيين هي نفسها بوجه الإجمال، ما عدا بعض «التحركات» الخاصة لكل من الطرفين كاجتماع فيلتمان بجماعة 14 آذار، وعدد من الزعماء الروحيين وهو الأمر الذي يحدث للمرة الأولى، مقابل توجه رحيمي إلى مقابلة الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله، وزيارة الجنوب اللبناني إلى أقرب نقطة من العدو الإسرائيلي الذي أقام سوراً كبيراً على طول الحدود تقريباً بارتفاع عشرة أمتار في سعي من إسرائيل لحماية نفسها من هجمات مفترضة من الجانب اللبناني. ولكن مع ظاهر هذه المطاردة، تحدثت معلومات عن سير الأمور في اتجاه إيجابي – إلى حد ما - بين الولاياتالمتحدة والجمهورية الإيرانية الإسلامية حول موضوع السلاح النووي، ويبدو ان بعض المساعي التي بذلت تواصلت إلى عقد اجتماع بين الجانبين في العراق خلال الأيام القليلة المقبلة في سعي لتحقيق اختراق ما في هذه المسألة. وبانتظار معرفة نتائج هذا اللقاءَ المرتقب طلعت إسرائيل بمفاجأة من العيار الثقيل، مع إعلان رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو قيام ائتلاف كبير مع زعيم حزب كديما المعارض بقيادة رئيسه الجديد شاؤول موفاز، وتأليف حكومة ائتلافية تحصل على تأييد أكثر من تسعين صوتاً من أصوات الكنيست، وبذلك تخطت إسرائيل أزمة إجراءَ انتخابات مبكرة. لكن ما هي أبعاد الخطوة الإسرائيلية؟ البعض وصفها ب «الربيع الإسرائيلي» أو ان ما حتم قيام هذا التحالف العريض هو مواجهة ما يجري حالياً في العالم العربي وبصورة خاصة في مصر واحتمال تأثير ذلك على إمكانية طلب الحكومة المصرية الجديدة، التي ستظهر بعد الانتخابات - هذا إذا جرت هذه الانتخابات - إعادة التفاوض على بعض الاتفاقيات المعقودة مع إسرائيل (كمب ديفيد وغيرها). ومعلوم ان إسرائيل في كل مرة تلجأ إلى تأليف حكومة «اتحاد وطني» فهي تضمر السوء للجانب الفلسطيني والعربي، حيث يصعب التصور ان نتانياهو قد تحول بين ليلة وضحاها من «صقر» إلى «معتدل» يعمل على فتح المفاوضات المتوقفة مع الفلسطينيين أو أن يقدم تنازلاً عربياً في مكان ما وعلى جبهة ما وهو الأمر المستبعد من جانب إسرائيل، والمهم بالنسبة إليها أنها بهذا التحالف العريض قد انقذت نفسها من انتخابات برلمانية كانت ستجري قريباً، ولا يعرف كيف ستكون عليه نتيجة هذه الانتخابات. ويتحدث بعض المراقبين عن وجود «ربيع إسرائيلي» من ناحية التغيير والتبديل في الطروحات المتداولة في سعي لإخراج المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية من المأزق الذي تعاينه، أو الاستجابة لطلب الحكم الجديد في مصر فتح مفاوضات جديدة حول اتفاقات كمب ديفيد الموقعة بين مصر وإسرائيل في العام 1979 في القرن الماضي. لكن الأمر يبدو مرتبطاً بالوضع المعقد دستورياً وسياسياً في مصر، الأمر الذي يهدد بتعطيل إجراءَ انتخابات الرئاسة في مصر والمقررة – مبدئياً - قبل نهاية شهر أيار (مايو) الجاري. لكن الصراع الناشب بين المحكمة الدستورية واللجنة المكلفة بدراسة أوضاع المرشحين ربما أدى إلى عدم تمكين إجراءَ الانتخابات الرئاسية في مصر تحت أسباب واهية، الأمر الذي يهدد بوجود حالة من الفراغ الرئاسي يمني الاخوان أنفسهم تسلم أحد مرشحيحهم للمنصب، للمرة في تاريخ مصر، كما تمنى بعض الليبراليين والمستقلين أمثال عمرو موسى، أو اللواءَ أحمد شفيق من بلوغ الرئاسة في مصر. وبعد... ليس هناك في العالم العربي من اقصاه إلى اقصاه ما يدعو إلى بعض التفاؤل، بل ان البوصلة تشير إلى احتمال غرق المنطقة بالمزيد من التخبط قبل تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في ثورات «الربيع العربي». ومن منطلق ان قيام أي حكومة «اتحاد وطني» في إسرائيل ينبئ بحدوث أمر خطير، فالكلام يجري على الاحتمالات التالية: - توجيه ضربة عسكرية لإيران طال الحديث عنها مع العلم بتعقيد الإقدام على مثل هذه الخطوة من حيث إشعال المنطقة بكاملها. - توجيه ضربة موجعة ل «حماس» وقطاع غزة تُساهم في إرباك الفلسطينيين أكثر فأكثر. - الاستدارة نحو لبنان و «حزب الله» تحديداً لتوجيه ضربة شديدة على أساس أنها عملية الثأر لهزيمة إسرائيل في عدوان العام 2006. أما الحالة السورية فلا تزال تشكل التصدع الأكبر في الواقع العربي بوجه الإجمال وسط نظام تجاوز مرحلة تقديم التنازلات لخصومه الذين يصرون على المضي في مقاتلة النظام بشتى أنواع الأسلحة والتي بدأت تتدفق إلى سورية عبر منافذ بعضها معروف وبعضها الآخر مجهول. وتتحدثون يا سادة عن المخاوف من سقوط سورية في حرب أهلية... لكن ما الذي يجري فيها حالياً: أليس هو الحرب الأهلية بعينها؟ * إعلامي لبناني