كأنها قصة من «ألف ليلة وليلة»، تتحدث عن سعي للقاء عبر طيران في الفضاء استمر عشر سنوات، بل تضمّنت «نوماً» قارب الألف ليلة، قطعت خلالها «الحبيبة» 6 بلايين كليومتر بين النجوم، للقاء «الحبيب» والسير معه نحو الشمس! وتسمّى تلك المرتحلة الهائمة «روزيتا»، واسمها مقتبس من اسم «حجر الرشيد» الشهير الذي مكّن العالم الفرنسي جان- فرانسوا شامبليون من تفكيك اللغة الهيروغليفية. وفي منتصف الشهر الفائت، التقطت صورة لذلك «الحبيب»، بكاميرا اسمها «أوزيريس»، وهو إله فرعوني اشتهر بقصة حبه ل «إيزيس». وعلى رغم رومانسية الكلمات، يبدو «الحبيب» بارداً، بل إن حرارته تتدنى إلى 70 درجة تحت الصفر، إضافة إلى كونه معوجّ الجسم، بل إنه يشبه عجينة من قطعتين متلاصقتين. والواقع أن هذا اللقاء هو ثمرة جهود علمية صارمة استمرت عشر سنوات، قادتها «وكالة الفضاء الأوروبية» («إيزا») بالتعاون مع نظيرتها الأميركية «ناسا». وبالتزامن مع احتفال «إيزا» بمرور نصف قرن على تأسيسها، تلتقي المركبة الأوروبيّة «روزيتا» ومذنّب «67/بي شيريميوف- غيراسيمنسكي» 67P/Churyumov-Gerasimenko. وعمد «المركز الأوروبي لقيادة عمليات الفضاء» (مقرّه دارمشتات الألمانيّة)، إلى إطلاق مسابقة للصور عبر موقعه الشبكي، عن ذلك اللقاء، حملت شعار «روزيتا: وصلنا». لن يكون اللقاء الفضائي تلامساً بين الجسمين، بمعنى أن «روزيتا» لن تلامس المذنّب «67/بي»! ويحصل اللقاء بمعنى أن المركبة تدخل في مسار حول المذنّب، بعد أن تنهي عملية الدفع والكبح فيها. وبعدما كانا متباعدين 6 بلايين كيلومتر في العام 2004 عند انطلاق «روزيتا»، تتقلص المسافة إلى 100 كيلومتر. الأهم أن المركبة يمسكها الحقل المغناطيسي للمذنّب. وتتباطأ سرعته لتصل إلى 1.5 كيلومتر في الساعة، لكنها ترسم مداراً قطره 30 كيلومتراً حوله. هكذا تستسلم «روزيتا» لقوة جاذبية «67/بي»، فتدور حوله فيما يندفع المذنّب في رحلته حول الشمس. خلال ال 2500 سنة الفائتة، اقترب قرابة 2000 مذنّب من الأرض. فلماذا اختارت «إيزا» المذنّب «67/بي»؟ عندما اكتشف في العام 1969، لاحظ العلماء أن اقترابه من كوكب المشتري أدى إلى تغيير مساره ليرسم قوساً إهليلجيّاً حول الشمس. ويقدّر العلماء أن المذنّب استمر منذ ولادته عند تكوّن المجموعة الشمسيّة (قبل 4.6 بليون سنة)، وهو في البرودة والظلام بعيداً من تأثير ضوء الشمس، ما يجعله أرشيفاً كاملاً لتاريخ المجموعة الشمسية. وتحمل «روزيتا» 21 جهازاً لدرس تركيبة المذنّب وقوة جاذبية حقله المغناطيسي ودرجة حرارته. واستطاعت عبور ال 6 بلايين كيلومتر بالاستفادة من دورانها، كحجر في مقلاع، حول الأرض ثم المريخ. وفي معظم الوقت كانت محرّكاتها مطفأة، فبدت كأنها «الجميلة النائمة»! وعند مطلع العام الحالي، أعيد تشغيل محركاتها بعد نوم استمر 957 يوماً. واقتربت تدريجاً من المذنّب «67/بي»، قبل أن ترافقه في مدار ثابت لا يبعد عن سطحه سوى 100 كيلومتر. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، تطلق «روزيتا» روبوت الفضاء «فيلاي»، فيهبط على سطح المذنب، كي يبدأ دراسة مكثّفة له. والأهم، أن الروبوت و»روزيتا» يكونان جاهزين، بالكاميرات والمجسات وآلات الاستشعار، عندما يقترب المذنّب «67/بي» من الشمس، ويبدأ ثلجه الذوبان. وعندها، ينطلق منه ذيلان، ويكون أحدهما مستقيماً ومكوّناً من ذرات ماء مكهربة، بمعنى أنها مشحونة بالأيونات. ويتّخذ الذيل الآخر الشكل المقوّس الذي ترسمه المذنّبات خلفها عند رؤيتها من الأرض، وهو مكوّن من رذاذ أساسه بخار الماء مع بعض الصخور والأتربة. ويدرس «فيلاي» تلك الظاهرة وهو متمركز على سطح المذنّب، فيعطي البشرية فرصة أولى لدراسة المذنّبات وذيولها بصورة مباشرة. ويتوقع أن يستمر في عمله قرابة 6 أشهر.