ثمة اختلاف عميق بين مفهومين للخلاص التاريخي أو لنهاية التاريخ ينبعان من رؤية خاصة للوجود. المفهوم الأول ديني يعتقد بنهاية التاريخ فقط عند حدوث القيامة التي تختلف صورتها طفيفاً بين الأديان التوحيدية الثلاثة، ولكن المتفق عليه أن القيامة كحدث خلاصي إنما تقع خارج عالمنا نحن، وهو أمر يعني أن الزمان التاريخي الذي نعيش داخله لن يكون في يوم من الأيام خالياً من الصراع والتدافع والتداول بين الأمم، والأفكار، والفلسفات بل والأديان نفسها. وأن المشيئة الإلهية وحدها هي القادرة على إيقاف هذا الصراع، ووضع نهاية للتاريخ، أي لعالم الشهادة، والذي يبدأ على أنقاضه الزمن الإلهي، أو التاريخ الجديد، الذي هو عالم الغيب. وأما الثاني فوضعي يعتقد بنهاية ممكنة للتاريخ في عالم الشهادة نفسه، أي داخل زماننا الإنساني وعلى هذه الأرض، حين يتمكن الإنسان الفاضل من تأسيس فردوس أرضي بإلهام قوة ما قد تكون معرفية «اليوتوبيا التكنولوجية الحديثة» أو فلسفية «أنماط المدينة الفاضلة في كل العصور». وهنا فإن نهاية التاريخ لا تعني زوال عالمنا تماماً، بل تعني فقط أن هذا العالم سيخلو من الصراعات الكبرى، والانقسامات الجذرية بين البشر، بحيث يصير التاريخ سكونياً، ويصير الشعور الإنساني بحركته أقرب لشعور راكب الطائرة بحركتها الناعمة الملساء في الفضاء الأعلى، منه إلى شعور راكب السيارة بوعورة الطريق، وخشونة السطح، وربما انهيارات الرمال المتحركة. وفي سياق هذا المفهوم يبقى الإنسان قادراً على السيطرة على مصيره، وعلى إيجاد حلول نهائية لكل مشكلاته الكبرى، بعيداً عن الإرادة الإلهية. وفي ما بين المفهومين ينمو مفهوم ثالث «تلفيقي» للخلاص التاريخي يحتوي على البعدين معاً «الديني - الوضعي» أو «الإلهي - الإنساني» حيث يبدأ الخلاص من دون نهاية للتاريخ البشري، بل من داخل عالمنا وزماننا نفسه وعلى هذه الأرض قبل يوم القيامة، ولكن برعاية المشيئة الإلهية، التي تمارس حضورها الفعال في التاريخ الإنساني ولو على سبيل تدبير نقطة انطلاق أو تدشين مسار نحو نهايته المتصورة، وذلك على نحو ما تمثله بجلاء النزعات الماشيخية في اليهودية، والعقيدة الألفية في المسيحية الإنجيلية، وأيضاً، وهو ما يعنينا، في هذا السياق، النزعة المهدوية الشيعية أو عقيدة «المهدي المنتظر» التي أسست للمذهب الإمامي الإثنى عشري، الذي ألهم بدوره مفهوم ولاية الفقيه، وحفَّز الثورة الإيرانية، ولا يزال حاكماً في إيران. وإذ يشي التاريخ بأن شتى الأفكار اليوتوبية لم تكن فاعلة في التاريخ، وبأن كل محاولات الخلاص من خارجه لم تكن سوى هوامش على دفتره، يمكننا الادعاء بأن ما يجري في إيران اليوم منذ انتهت انتخاباتها الرئاسية لا يقل في دلالته عن بداية أفول للثورة الإيرانية كحدث يوتوبي خلاصي استطاع على مدى ثلاثة عقود أن يحشد خلفه جميع الإيرانيين بحيث ظل التنافس بينهم حول تفاصيل فرعية وفروقات دقيقة داخل النموذج ذاته أو العباءة نفسها التي تلف النظام، ويرتديها الفقيه / الولي خليفة الإمام الغائب، العارف بالحقيقة الكونية الشاملة، والأقدر على تفسير التاريخ، والذي بث معرفته تلك في روح آيات الله، ووكلهم بثها في روح الشعب. ذلك أن إعلان المؤسسة الدينية الحاكمة فوز الرئيس احمدي نجاد، وعدم اعتراف منافسيه بهذه النتيجة، وما تلى ذلك من تظاهرات واعتصامات لا تزال مستمرة، بل وأعمال عنف متضادة أريقت فيها دماء من الجانبين، يشى بتآكل يوتوبيا الخلاص التلفيقي التي غذت الثورة الإيرانية، وهو أمر حدث على مرحلتين: في الأولى تآكلت عملياً القدرة على تعميم الخلاص، بتراجع فكرة تصدير الثورة حيث رحل الإمام الخميني من دون أن يحقق حلمه في فرض الإسلام السياسي الشيعي على محيطه خصوصاً في الخليج العربي على رغم بعض القلاقل التي أحدثتها إيران طيلة الثمانينات وبداية التسعينات عبوراً على حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران. وقد أبدت إيران ما بعد الخميني استيعاباً كبيراً للواقع المحيط بها، واستعداداً لتجاوز مفهوم تصدير الثورة وما أثاره من قلاقل مع ولايتي الرئيس رفسنجاني من 1989. ثم سعت إلى إصلاح علاقاتها بالعالم العربي خصوصاً السعودية ودول الخليج، وحاولت أن تعيد علاقاتها مع مصر مع ولايتي الرئيس خاتمي بين 1997 و2005، وهو المسعى الذي مثل تجسيداً عملياً للسنة التاريخية المألوفة عن طبيعة الاجتماع السياسي والقائلة بقوة دفع التجربة الواقعية نحو العقلانية السياسية حيث تكون الخيارات العملية استلهاماً لضغوط الحياة اليومية، ومطالبات الواقع المعاش على شتى الأصعدة، ومن هنا كان طبيعياً أن تؤول مثالية الثورة الشيعية إلى واقعية الدولة الإيرانية. غير أن هذا المسعي تعرض لاختبار عنيف بمجيء الرئيس أحمدي نجاد قبل أربع سنوات، كقيادة سياسية تتمتع بسمات شخصية حادة، وخطاب سياسي يتسم بالديماغوجية وعدم اللباقة أو حتى الحذر، كما أنها على قدر كبير من المحافظة، إذ تستقي إلهامها من مرشد الثورة السيد علي خامئني. وفي الحقيقة لم يكن هذا التحول مفهوماً إلا في ضوء تردد الرئيس خاتمي في مسعاه الإصلاحي من ناحية، وصعود اليمين الأميركي المحافظ، وهجومه الواسع على المنطقة احتلالاً للعراق وتهديداً لبقية المنطقة من ناحية أخرى، حيث دفع الخوف، في أغلب الظن، الشعب الإيراني نحو الخيار الأكثر راديكالية، لأنه في ظنه الأكثر استطاعة على حماية الأمن القومي. وفي المرحلة الثانية: التي تبدأ فصولها الآن، أخذت الشرعية الثورية نفسها في التآكل، وبدأ البحث في صدقية وعود الخلاص المذهبي التي كانت الخمينية قدمتها للشعب الإيراني، وكان هذا الشعب منحها كل ثقته بطول ثلاثة عقود لم تؤت خلالها ثمراً يذكر ولم تحقق الكثير من الغايات التي كان يأملها شعب عريق مثله، وجد نفسه عاجزاً عن ترقية نمط عيشه، وامتلاك حريته في التعبير والتحرر الإعلامي والسياسي على رغم ما يملكه من تقاليد عريقة وثروات طبيعية كبيرة. ولعلي أزعم هنا بأن المرحلة الثانية هذه قد تأخرت لنحو أربع سنوات كاملة، إذ كان ممكناً لها أن تبدأ بنهاية عصر خاتمي، ولكن سيرها قد تعطل بقوة اليمين المحافظ الأميركي من ناحية، والالتحام الناتج من الالتفاف حول الخيار النووي من ناحية أخرى، وكلا الأمرين استدعى شخصية كالرئيس احمدي نجاد، ولكنها تبدأ الآن على أنقاض اليمين الأميركي المحافظ، وفي ظل رئيس ديموقراطي كان بليغاً جداً عندما وصف الصراع في إيران بأنه «داخلي»، وكان حصيفاً جداً عندما رآه «غير جذري»، ولا يزال يدور داخل العباءة الدينية للمرشد الأعلى، ولعله يعرف بفطنته، وإن لم يعلن ذلك صراحة، أن الصراع سينمو ويصير أكثر جذرية، وأن المرجعية الدينية سوف تصبح محلاً للنقاش في قادم الأيام، بعد أن تفتقت عن ثغرات، وتفجرت حولها وبها ومنها دماء ليست غزيرة تماماً، ولكنها أيضاً ليست بالقليلة، مع ما تركته من ندوب وأوجاع، وبلورته لدى الشعب الإيراني من رغبة في الحشد، وقدرة عليه، في مواجهة المرجعية التي لم يجرؤ أحد على المجاهرة بمخالفتها حتى الانتخابات الأخيرة. ولعل الرئيس الأميركي يدرك أن أفضل طريقة لتزكية هذا التحول الذي يكمل عودة إيران إلى الواقعية السياسية هو تحاشي أي نوع من التدخل مستقبلاً، لأن مثل هذا التدخل سيسهم في توقيف الجدل الداخلي، وبلورة الحشد ضد الخارج خصوصاً الأميركي، فالنظام الإيراني، ككل نظام مغلق، ينمو على العزلة، ويتغذى على مشاعر الخوف، ويتقوى بالحصار، فما أن ينتهي الخوف، ويتفكك الحصار حتى تبدأ الأسئلة، التي سرعان ما تنمو إلى حد المساءلة، وجميعها تقود في النهاية إلى مطالبات شعب عريق فعلاً بحقه في تقرير مستقبله والسيطرة على مصيره، بعدما تأكد أن الخلاص من قبضة التخلف والضعف لا يكون سوى بعمل إنساني داخل التاريخ، وليس بوعود خلاص تلفيقي تتجاوز هذا التاريخ أو تهدر قيمته الأكثر حيوية في صياغته: الحرية. * كاتب مصري.