ينظر الكثيرون إلى مهمة أنان فقط من زاوية التزام النظام بسحب الجيش من الشوارع، وتطبيق بند السماح بالتظاهر. وليقينهم أن هذا لن يحدث، يعتبرونها مجرد فرصة إضافية للنظام سيستثمرها في استمرار نهجه. فهم، باختصار، يرون أنه سيتكرر مع المراقبين الدوليين سيناريو المراقبين العرب، إذ سيُشَوّشون بعمليات مسلحة يتعذّر عليهم الجزم بالهوية السياسية لفاعلها، ما يؤدي إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه من قبل. هذا البند، الهام جداً في سلة مهمة أنان، لا يستغرقها. ومن غير المجدي مقاربتها من زاويته للوصول إلى إمكانية نجاحها أو فشلها، طالما أن هذه المقاربة لا فعل لها على الأرض. فالأهم هو كيفية التعاطي معها لتفعيلها سياسياً، لأن ذلك من شأنه الإفادة منها إن نجحت وتقليل الخسائر إن فشلت. وهذا يستدعي التعامل معها بمنتهى المسؤولية، طالما أن نجاحها سيساهم في إخراج سورية من المأزق الواقعة فيه. يكمن المأزق في عجز الشعب الرافض للنظام عن إسقاطه، وعجز النظام عن فرض الاستقرار. ما يعني أن نجاح مهمة أنان معناه الدفع باتجاه حل سياسي للمأزق، أما فشلها فسيفتح بوابة الحرب الأهلية و/أو التدخل العسكري الغربي. هذه المهمة، أهم ما فيها انطواؤها على عنصرين يتكامل فيهما الخارجي والداخلي: يتمثل الخارجي بالطرف الذي دعا إليها. فقد بدأت كمسألة إنسانية من الأممالمتحدة، وسرعان ما صارت مهمة سياسية بين يدي مجلس الأمن. وفي النتيجة هو من طرحها، وخوّل السيد أنان مهمة ترتيب خطوات تنفيذها والإشراف عليه. وطالما أنها من مجلس الأمن، لا مفرّ للنظام من القبول بها، تحت طائلة صيرورته «خارجاً عن الشرعية الدولية». فالمجلس لم يتدخل/يتمكن من التدخل، إلا بعد سطوع حقيقة هذا العجز المتبادل. ما يعني أن هذا الصراع، العاجز فيه كلٌ من طرفيه عن هزيمة الآخر، يتطلب حله مبادرةً من خارجهما. هذه الحقيقة، بعدما أسست لتدخل مجلس الأمن، هي التي ساهمت في فرض العنصر الداخلي. يتمثل الداخلي بقبول النظام مبدأ الحل السياسي. منذ أحداث درعا، في 18 آذار (مارس) 2011، والنظام يجهد لفرض حله، الهادف إلى استمراره كما هو، بالأسلوب الأمني – العسكري. وفي اثناء ذلك أوحى باستعداده للسير على طريق الحل السياسي، من خلال دعوة الجميع، بمن فيهم المعارضة، إلى الحوار. لكنّ هذه الدعوة، التي حاول إظهارها على انها شكلٌ للحل السياسي، كانت في حقيقتها تمويهاً للمشكلة السياسية. ولأنها كذلك، فشلت حتى من غير تجريب. أما الآن فقد أعلن النظام التزامه مع مجلس الأمن بالعمل على «تسهيل الانتقال السياسي... نحو نظام سياسي ديموقراطي تعددي... وذلك بطرق منها الشروع في حوار سياسي شامل بين الحكومة السورية وكامل أطياف المعارضة السورية» (البيان الرئاسي لمجلس الأمن حول سورية، بتاريخ 21/3/2012). وهو ما يعني «تعهد النظام العمل على جعل نظام الحكم في سورية ديموقراطياً، عبر التفاوض بينه وبين المعارضة على ترتيب خطوات إنهاء ديكتاتوريته». ليس سهلاً على النظام الإيفاء بهذا التعهد، ولا التصريح بأنه في حلٍّ منه. فنراه يناور، تمضيةّ للوقت، عسى ان تحدث مشكلة إقليمية أو دولية كبيرة تحرره منه بقذفها سورية إلى خلفية المشهد الدولي. ولأن إمكانية حدوث ذلك تكاد تساوي الصفر في الجو السياسي الراهن، وعلى المدى المنظور، لا يجوز المقامرة بسورية على مذبح هذا الاحتمال. وبالتالي على النظام المبادرة إلى القيام بانعطاف U في مجمل سياسته، التي سأشير فيها إلى نقطتين: 1 حذار من التفكير بالقطع مع الأممالمتحدة، هذا الذي قد تؤشر اليه محاولة افتعال معارك وهمية معها، كتلك التي مارستها صحيفة تشرين مع بان كي مون وكوفي أنان في 28 نيسان (أبريل) 2012: عرّضت بهما لعدم تطرقهما الى التفجيرات الإرهابية، التي قامت بها المجموعات المسلحة، بينما ركّزا على أن النظام لم يطبق البند الأول مما التزم به. هذا التعريض ليس موقفاً رسمياً، ولو كان كذلك لعبّر عنه السيد وزير الخارجية، لكنّ الخشية من أن يكون أول الغيث. فإدانتها ليست من مهمتهما، وعلاوة على ذلك ليس مطلوباً منهما حتى الإشارة إليها، لأن خطة مجلس الأمن تنص على قيام النظام بوقف عملياته العسكرية أولاً وبعد يومين تليه المجموعات المسلحة. 2 لم يطبّق النظام البند الأول، هذا شأنه. لكنه سيقوم بذلك عما قريب طالما أن من المستبعد أن يقطع مع مجلس الأمن، وما يترتب على ذلك من ضم بوتين ولافروف إلى عداد المتآمرين عليه. ولكنْ، ريثما يسحب قواته العسكرية فعلاً، ويسمح بالتظاهر السلمي، عليه رفع قبضته الأمنية عن الناشطين السياسيين في الداخل. فمثلاً من، وماذا، يخدم اعتقال الصديق سلامة كيله؟ ألأنه في «تجمّع اليسار»؟ يعلم النظام أنه مستعد لتحدي التجمع المذكور على تسليمه السلطة في كل سورية، إن أقنع ببرنامجه 51 في المئة من ناخبي أي قرية يختارها التجمع بنفسه. اعتقله كي يرسل رسالة إلى كل المجموعات السياسية في الداخل، التي تفكر بممارسة النشاط السياسي، ولو عبر إصدار نشرة ك «اليساري»، مفادها «إيّاكم! نحن هنا!». هذه السياسة غير مجدية، لأن سورية لا يمكن أن تعود إلى سابق عهدها. لذا لا مفر من وقفها كي تتبلور معارضة سياسية ديموقراطية في الداخل تساهم بفاعلية، إلى جانب المجلس الوطني وهيئة التنسيق، في مفاوضة النظام على كيفية الانتقال بسورية إلى «نظام سياسي ديموقراطي تعددي، يتمتع فيه المواطنون بالمساواة بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية أو العرقية أو العقائدية»، كما التزم النظام في نص البيان الرئاسي المذكور. أما إن اعتقد أنه باستمرار قمع هذه المجموعات يُضعف المعارضة الداخلية لمصلحته، فواهم. مثلاً، إنه يعتبر «هيئة التنسيق» معارضة وطنية، ويعتقد أنه يسمح لها بالعمل. وقد دعت إلى وقفة احتجاجية في دمشق، لم يتجاوز عدد محتجيها ال250. فكم سيبلغ وزنها في الوفد المفاوض، الذي ستقرره قوتها في الشارع وليس النظام؟ من هنا على النظام أن يتعامل على أساس أنه لن يتفاوض مع ذاته، ولا مع المعارضين من حوله، بل مع ممثلي الشعب الرافض للديكتاتورية. ما يعني أن لا معارضة مؤيدة له! أما الناشطون السياسيون في الداخل، فأعتقد أن عليهم تشكيل معارضة سياسية، تستقطب السوريين المتحركين والصامتين، وتساهم في جعل ديموقراطيتهم رقماً صعباً في معادلة الصراع القادم الذي سيستعر داخل مفهوم «الديموقراطية المدنية» المجرد، وعليه. وهو ما يتم بصيرورتهم قوة سياسية شعبية الآن، أثناء مهمة أنان، وليس بعدها... وبالتأكيد ليس بعد فشلها. * كاتب سوري