بعد رفض النظام السوري تطبيق التزاماته بموجب خطة كوفي أنان التي سبق ان وافق عليها بناء على رغبة روسية وصينية، وفي وجه ضغوط ديبلوماسية وعقوبات قاسية فُرضت عليه، يكون قد عاد الى نظريته الاولى في مواجهة الازمة التي يتعرض لها، وهي ان هذه الازمة من صنع اطراف خارجية، وادواتها في الداخل لا هدف لهم سوى تخريب البلد وقتل المواطنين، فيما لا يفعل النظام سوى الرد على «الارهاب». ولذلك يكون السؤال البديهي الذي يفترض أن يطرح اليوم، مع اعلان دمشق عملياً عدم الالتزام بوقف النار تنفيذاً لخطة انان، التي ماتت قبل ان تولد، هو: لماذا وافق النظام السوري على هذه الخطة، التي طالبته بسحب قواته ووقف اعمال العنف من جانبه اولاً، على ان يأتي التزام المعارضة بعد 48 ساعة، اي بعد التأكد من التزام النظام؟ لقد شكلت هذه الموافقة انقلاباً على نظريته السابقة في تفسير الازمة منذ اندلاعها قبل اكثر من عام. فهو كان يبرر أعمال جيشه بأنه يرد على «مجموعات ارهابية»، ما يبعد عن هذه المجموعات صفة المعارضة المشروعة التي يقتضي التحاور معها للتوصل الى صيغ وتسويات سياسية للأزمة. وكان النظام يعتبر ان من شروط ممارسة الدولة سيادتها هو حقها في فرض الامن بالطريقة التي تراها مناسبة لحماية مواطنيها. وكانت الموافقة على اطلاق المعتقلين انقلاباً على النظرية الاخرى التي طالما تبناها النظام، الذي انكر دائماً انه يحتجز مدنيين بسبب مشاركتهم في تظاهرات سلمية، بل هو انكر باستمرار انه يطلق النار على هذه التظاهرات السلمية. ولذلك كانت موافقته على اطلاق المعتقلين اعترافاً منه بعدم شرعية اعتقالهم، لأن الدولة التي تطالب باحترام سيادتها لا توافق عادة على تدخل من هذا النوع في شؤونها القانونية والقضائية المتعلقة بالتعامل مع مواطنيها. ما كان مطلوباً من النظام السوري تنفيذه بناء لخطة أنان كان من شأنه ان يسقط من يده كل حججه السابقة. لقد كان مطلوباً منه ان يوقف النار اولاً، وهو ما يعني بوضوح انه المسؤول الاول عن القتل، وانه اذا توقف من جانبه فلا بد ان تكون ردة الفعل المقابلة ايجابية. وكان مطلوباً منه سحب آلياته الثقيلة من المدن، وهو ما يعني اعترافاً من جانبه بوجود هذه الآليات في الاماكن الآهلة بالسكان، وهو ما كان ينكره، فضلاً عن ان مطالبته بذلك تعني سحب ورقة مهمة طالما تمسك بها، وهي حقه في الدفاع عن المدنيين الذي يتعرضون لأعمال «ارهابية». الى ذلك كان بند مطالبة النظام بالسماح بالتظاهرات السلمية وبمنح الإذن لوسائل الاعلام الاجنبية للعمل بحرية. فعندما يسمح النظام السوري بكل ذلك، بعد ان يكون قد سحب آلته العسكرية من المدن، فان ذلك سيعني عملياً انه منح الناس القدرة على التعبير عن رأيهم فيه بحرية ومن دون خوف من القتل، وتحت انظار وسائل الاعلام. وعندما يحصل كل ذلك، كيف سيحمي النظام نفسه عندما يتدفق السوريون الى الشوارع مطالبين بسقوطه، بعد ان يزول عامل الخوف عنهم، وهم الذين يتحدّون الخوف والموت حتى في الظروف الدامية التي تحيط بهم اليوم؟ مغامرة النظام السوري بالموافقة على خطة أنان كانت خروجاً عن المعهود عنه منذ بداية الازمة التي يواجهها. لأنها كانت بمثابة موافقة من جانبه على القاء الكرة في ملعبه لتحميله مسؤولية الخروج من المأزق، عبر قيامه هو بالمبادرات الاولى، من وقف النار الى اطلاق المعتقلين الى السماح بالتظاهرات، الى البحث عن حل سلمي مع المعارضين، وكلها خطوات لا يعني تطبيقها سوى التمهيد لسقوط النظام من الداخل. غير ان الذين استفاقوا الى ذلك متأخرين في دمشق أدركوا ان اعادة الكرة الى الخارج هي الحل الوحيد الذي يملكونه. ومن هنا كان «اكتشاف» طلب الضمانات من السعودية وتركيا وقطر، كونها الاطراف التي اختار النظام السوري تحميلها المسؤولية عن الازمة التي يواجهها. فهو نظام قوي ومتماسك في الداخل، يتمتع بشعبية واسعة لا غبار عليها، لولا «المؤامرة الخارجية» التي تقلق المواطنين السوريين منذ اكثر من عام!