عوّدنا الإيرانيون أنهم دائماً قادرون على الإتيان بما هو مذهل وخارج عن التصور ومثير للاستغراب أو الإعجاب، اعتماداً على هوية المتلقي. فما زلنا نتذكر الرسالة التي بعث بها الخميني عام 1989 إلى زعيم الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف يدعوه فيها إلى الإسلام، والتي أثارت استغراب كثيرين وإعجاب آخرين! كان التساؤل آنذاك هو هل كان الإمام يعتقد فعلاً أن غورباتشوف يمكن أن يستجيب لهذه الدعوة ويتحول إلى الإسلام، ومعه شعوب إمبراطوريته، أم أنها كانت رسالة سياسية موجهة نحو الداخل الإيراني أو ربما العالم الإسلامي؟ في كل الأحوال، الأمر متروك لتحليلات المؤرخين، لكن الأكيد أنها كانت حقاً رسالة تاريخية. وبعد ربع قرن تقريباً من تلك الرسالة الفريدة، يفاجئنا نائب الرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي بدعوة العراق إلى الوحدة مع إيران! نعم الوحدة لا غير! فإيران، الدولة الكبيرة الشاسعة القوية الثرية المأهولة بثمانين مليوناً، وتمتد من البحر العربي جنوباً إلى بحر قزوين شمالاً، لا تكفي على ما يبدو لإرضاء طموحات القادة الإيرانيين الجامحة. فهي صغيرة في نظرهم وضعيفة وتحتاج إلى أن تكون أكبر وأقوى بانضمام العراق إليها، كي تكون إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس! ما الذي تعنيه دعوة رحيمي التي كررها مرتين؟ هل يقصد تهديد الآخرين بإمكان حصول مثل هذا السيناريو الذي هو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع؟ أم أنه يقصدها فعلاً ويعتقد أنها ممكنة وقابلة التحقيق؟ أم أنه قد يقصد الاثنين معاً؟ أم أنه يريد لفت انتباه العراقيين إلى هذا الأمر كي يضعوه في حسبانهم مستقبلاً؟ أم أنها مجرد فكرة عابرة طرأت على تفكير شخص حدث مصادفة أنه مسؤول إيراني رفيع؟ لست متخصصاً في السياسة والثقافة الإيرانيتين، على رغم أنني زرت إيران مرتين عامي 2003 و2004 ضمن وفد رسمي عراقي، ولن أدعي معرفة التفكير الإيراني في العمق، على رغم متابعتي للشأن الإيراني منذ مطلع السبعينات، لما له من تأثير على الأحداث في العراق والعالم. كما أدرك تماماً أن هناك ما يشبه الهوس عند العراقيين خصوصاً والعرب عموماً في الخوف من إيران والتشكيك بنياتها وهذا يشمل كل الطوائف والقوميات والمناطق وقد تكون له أسبابه التاريخية، ولا أنزِّه نفسي عن التأثر به على رغم ادعائي العقلانية والموضوعية، فالإنسان ابن بيئته، ولو حاول التفكير بعيداً عنها وخارجها. ولكنْ هل يدرك الإيرانيون حجم انعدام الثقة بينهم وبين العراقيين الذي يمتد على مدى التاريخ؟ وهنا أقصد العراقيين جميعاً وليس طائفة منهم قد تكون أكثر صخباً في إعلان شكوكها بإيران. هل يعتقدون حقاً بأن مجرد كون المرء شيعياً يؤهله لأن يوالي إيران أو يحصِّنه ضد الشك في نياتها السياسية والثقافية والاقتصادية؟ لا أعتقد ذلك لأن الإيرانيين شعب متطور ثقافياً ولديهم مراكز دراسات وأبحاث وجامعات عريقة وهذا يمكّنهم من أن يعرفوا جيدا كيف يفكر جيرانهم من عراقيين وأتراك وأفغان وباكستانيين وخليجيين وتركمان وآذربيجانيين يرتبطون قومياً مع الآذربيجانيين الإيرانيين الذين يشكلون 40 في المئة على الأقل من سكان إيران، ومع باقي الإيرانيين مذهبياً كونهم شيعة، لكنهم لا يثقون بإيران سياسياً، وليس أدل على ذلك من وقوفها إلى جانب أرمينيا في نزاعها مع آذربيجان حول إقليم ناغورني قره باخ. إن لم يدرك الإيرانيون مشاعر انعدام الثقة بهم (وهذا ألطف تعبير) عند العراقيين فهم لا يعرفون شيئاً عن العراق. العراقيون، كلهم وليس طائفة منهم، لا يخشون دولة أو قومية أو ثقافة أكثر من الإيرانية - وهذا دائماً - لذلك فدعوة إيران العراق إلى الوحدة تدعو إلى السخرية وشر البلية ما يضحك. لكن هذا لا يعني أن قدر العراق وإيران أن يكونا دائماً متخاصمين يتربصان ببعضهما الدوائر، بل هناك الكثير مما يجمعهما ويقرّبهما كدولتين قادرتين على بناء شراكة حقيقية. لكن هذه الشراكة يجب أن تبنى على أسس سليمة كي تصمد أمام عاديات الزمن، وهذه الأسس تبدأ بإدراك الإيرانيين، مثقفين وسياسيين ورجال دين، أن هناك هوية وثقافة عراقيتين تختلفان جذريا عن الهوية والثقافة الإيرانيتين، وأنهما لا تصطبغان دائماً بالعقائد والقناعات الدينية ولا تقومان على أساس المواقف السياسية المتغيرة. بإمكان الإيرانيين أن يتفاعلوا مع الثقافة العراقية وأحسِب أن كثيرين منهم فعلوا ويفعلون ذلك، وأولهم المرشد علي خامنئي الذي يجيد العربية إجادة تامة، إضافة إلى شخصيات أخرى مؤثرة، تماماً كما فعل عراقيون من أصول إيرانية، وغيَّروا ألقابهم كي تتماشى مع الثقافة والمزاج العراقيين. بإمكان الإيرانيين أن يتفاعلوا مع الثقافة العراقية، ولكن عليهم أن يدركوا أنها أصيلة وراسخة ولن تتقبل يوماً أن يكون العراق جزءاً من دولة أخرى. كما لن يقبل العراقيون أن يكونوا جزءاً من أي دولة أخرى، ولو اشتركوا معها بخواص أخرى كالقومية واللغة ولهذا فشلت كل محاولات (الوحدة) مع دول أخرى رغم أن هناك من اعتاش على هذا الوهم لعقود من الزمن. الإيرانيون بحاجة إلى البرهنة أولاً على احترام الثقافات الإيرانية الفرعية، والعربية تشكل إحدى أهمها، والسماح للإيرانيين العرب وغيرهم من القوميات غير الفارسية بأن يمارسوا ثقافاتهم المختلفة ويتعلموا بلغاتهم كي يمكن العراقيين وغيرهم أن يصدقوا فعلاً أن التقارب مع إيران لا يشكل مخاطرة كبيرة. عاش العراقيون والإيرانيون جنباً إلى جنب مئات السنين واقتربوا من بعضهم بعضاً أحياناً إلى حد التماهي، فما أكثر الإيرانيين الذين تأثروا بالثقافة العراقية وأثروا فيها، وتاريخنا يزخر بالإيرانيين الذين ساهموا مساهمات فعالة في الثقافة العربية بعد اندماجهم فيها، والعكس صحيح. لكن إيران والعراق كانا وسيبقيان دولتين متجاورتين تعيشان ضمن ثقافتين مختلفتين مهما تقاربت المصالح أو تطابقت المواقف السياسية. الثقافة العراقية حافظت على أصالتها عبر التاريخ وبرهنت أنها تأبى الإندماج أو الانصهار.