لم يكن للحيطان آذان يوماً ما، لكنّ المعلومة «عشعشت في قلوبنا، كما لو رضعناها مع حليب أمّهاتنا نحن الّذين وُلِدنا وترعرعنا في هذه المدينة الّتي ذاقت المرارة على طول العقود الكارثيّة لحقبة البعث ثم الأسدين»، فكان أن تزعزعت ثقتها حتى بهويّتها السوريّة، فوق ما حملته من جريرة إرثها «العثماني»، وحسد الريف، كل الريف، السوري على ريادتها للصناعة والتجارة يوماً ما. ولأنّ التعليم في سوريّة في شكلٍ عام تحوّل بفضل البعث ولواحقه إلى مجرّد عمليّة تحفيظٍ وتبصيمٍ، فقد انزاحت الجامعات السورية عن أي ذكرٍ لها في تصنيفٍ تقويميّ عالميٍّ للجامعات، أللهم إلّا إذا اعتبرنا أنّ رقماً ك4475 لجامعة دمشق و6730 لجامعة حلب هو ذو قيمة بين 193 دولة في العالم. هذا غيضٌ من فيضٍ في توصيف الجامعات السوريّة قد لا يكون مناسبةً لمقدمةٍ عن مشاركتها الرياديّة في الثورة السوريّة على رغم كلّ ما قد تراكم من كوارث البعث والأب والابن. ولكنّ «الحيطان وآذانها» ليست سوى إشارة لما كان قد تغلغل في الثقافة السوريّة عموماً وحلب على وجه الخصوص، حيث العلمانيّة المزعومة للنظام نجحت تماماً بفصل «الجوامع» والجامعات أيضاً على حد سواء عن دائرة السياسة «العائليّة». هكذا، غدا التظاهر كفعلٍ سياسيٍّ مباشر في حاجةٍ إلى مخاضٍ عسيرٍ في مدينةٍ آذان حيطانها مُشنّفةُ لكلّ همسات أبنائها، لتترك بذلك أثراً مهيمناً حتى على مستوى التقانة الحديثة في الاتصالات. ولعلّ من الإنصاف بمكان أنّ أبناء الريف المحيط والقريب لحلب قد لعبوا دوراً مهمّاً في تخفيف وطأة الخوف والحذر المتراكم في بنية الوعي الحلبي شيئاً فشيئاً، وتجسّد ذلك بانطلاق التظاهرات في السكن الجامعي بدايةً بالتوازي مع غضبة شبابها لمناطقهم الثائرة، وبين هؤلاء تسلّل في البدايات الطلاب الحلبيون بانضمامهم إلى زملائهم في المدينة الجامعيّة مغادرين بذلك حرص ذويهم على سلامتهم من شرور السياسة التي لم يعرفوا منها سوى البطش القابع في ذاكرةٍ جهدوا طويلاً في إغفالها تحت الوعي الباطن وملؤها الألم والشجون. بالعودة إلى الوراء في تاريخ جامعة الثورة سنجد لها تاريخاً حافلاً بالمشاركة في أعباء الوطن السياسيّة والثقافيّة، فحقبة الثمانينات الكارثيّة في عهد الراحل تذخر بالشهداء والمعتقلين من أبنائها المتفوقين والمميزين قبل أن تصير برعاية البعث والأسد مجرّد مفرخةٍ لأرقامٍ هائلةٍ ترفد سوق العطالة لتزيد في مآسي السوريين المتراكمة في كلّ المناحي. على أنّه وليس ببعيدٍ كثيراً، وتحديداً سنة 2003 إبّان المسألة العراقية، شهدت جامعة حلب خروجاً عن ثباتها الطويل من خلال تسجيل موقفٍ سياسيٍ قام به نشطاء كسروا حاجز الصمت بالاحتجاج على السياسات الدولية بقواها المهيمنة، وكان أن احتارت السلطات آنذاك في التعامل مع ظاهرةٍ فاجأتهم بطبيعة الحال إذ كان ظاهرها يشبه كثيراً الخطّ الذي انتهجته الحكومة السياسيّة في موقفها من الحرب على العراق البعثي. ولكنّ احتكار السياسة في الدائرة العائليّة الضيّقة ومحيطها من المتنفذين لم يسمح بطبيعة الحال بمشاركتها في أي موقف إذ لربّما يمهد الطريق لتمدمد الظاهرة إلى خطوط حمر، «على نحو ما يحصل الآن في بعض الدول الخليجية من تعاطف أهلها مع المأساة السورية»، فكان أن أزهقت «قوى الممانعة» الحراك في مهده قاطعةً الطريق على من تُسوّل له نفسه في التدخل في ما لا يعنيه سواء كانوا من الطلاب أو غيرهم. والحاصل حينها أن عُوقبت تلك الحركة الطالبية آنذاك بمفصولين من هبة التعليم المجانيّ، كما باعتقالاتٍ تأديبيّة للبعض، وترويعيّةٍ (لتربية الآخرين). راهناً، وقبيل انطلاق الثورة ببضعة أيام، وزّع شبّانٌ جامعيون جريئون قصاصاتٍ ورقيّةٍ حوت عباراتٍ تذكّر فقط بكرامة الإنسان، وتعرّف فقط ببعض سيّئات قانون الطوارئ، في مدينة تحتاج ورقة نعي للموتى فيها إلى موافقةٍ أمنيّة، لكنّ الرقابة المتحفزة ألقت القبض على هؤلاء الشبّان في 14 آذار (مارس)، قبل أن يغدو اليوم التالي تاريخاً لانطلاق الثورة، في دلالةٍ واضحةٍ على احتراز السلطة الأمنية لإجهاض أي محاولة للتفكير بما حلمت به شعوب الأمة العربية بعيد إزاحة صنمين من أصنامها العتيدة في تونس ومصر، ويزداد إحكام الرقابة تشدّداً على أي «نفسٍ» قد تكون محفّزة لاشتعال الاحتجاج، وما لبثت بعد حين، أن انزاحت عيون التوقعات عن البؤرة المرشّحة لإشعال فتيل الثورة بمقاربةٍ مع بنغازي ليبيا، ولا سيّما بعد أن تصدّرت درعا قائمة المآسي، وتلتها تباعاً إدلب فحماة وبقيّة المدن والمناطق قبل أن تتوج حمص عاصمةً للثورة، كلّ ذلك الشحن والغضب الطالبيّ يزداد تحفزاً إلى أن انتقل الحراك الاحتجاجي من المساكن الجامعية إلى الحاضن الجامعي الأكبر قبيل انتهاء الفصل الدراسي الثاني للسنة الفائتة 2011 في تحضيراتٍ جهدت طويلاً لتجميع قواها في كليّة الآداب. لعلّ من الجدير هنا التوقف عند نقطة الانطلاق للتظاهرات بدافع الإنصاف للروح التنافسيّة للطلاب، ومنها أقوال تشير إلى أن الفضل يعود لغير الطلاب الحلبيين في الحراك الجامعي، ولا يعدو ذلك بجذوره سوى إشارة لمخزون مناطقي نما في بعض الأحيان طاغياً على الشعور الوطني. ولكنه أبداً لم يعدُ روح التنافسية المرحة والدعابة بين هممٍ واعدةٍ تبحث عن وجودها وحرّيّتها وكرامتها من دون التلوّث أو الاكتراث لتقاسيم «شعبويّة» الطابع وهزيلة المعنى، وذلك لأن الأيام جرت لتوضّح أن الفضل للتكامل بين أبناء المدينة وساكنيها وطلّابها، بعد تدحرج الكرة «الاحتجاجيّة» التي كانت تكبر يوماً بعد يوم في انتصارٍ على الخوف والصمت المزمنين. أما البطولة الحقيقية التي قلّما ينصفها المتابع فهي من دون شكّ للجنس الأنثوي الذي تجاوز كلّ حدود المتوقع في بيئة موصوفة ب «المحافظة»، ولعلّ الدافع المحفز الذي تميّز به حراك جامعة الثورة كما لقِّبت هو غيرة الشبّان على زميلاتهم، وكذلك غيرة الصبايا على أبناء بلدهن، وبصرف كل النظر عن عصبوية الانتماء الضيّقة، في مثالٍ حيٍّ ومكثّفٍ عن تفجّر الوعي الكامن في السوريّين على اختلاف مشاربهم. * كاتب سوري