في العاصمة الأردنية عمان؛ ثمة من يبحث في الأسباب التي دفعت الرئيس السابق عون الخصاونة للتخلي عن حضن الدولة مبكراً، قبل أن يصف الحكومات في بلده بأنها «كالزوجة القبيحة». ولم يتردد الرجل في البوح لبعض المقربين منه بأن الاستقالة جاءت احتجاجاً على تدخل القصر الملكي وجهاز الاستخبارات العامة مراراً في صناعة القرار داخل حكومته، التي طالما تشبثت بمبدأ الولاية العامة. الصالونات السياسية في عمان انشغلت طوال الأيام الماضية بأخبار الرئيس «المنشق» وسارع الكثير من مرتاديها إلى التشكيك بنوايا الرئيس الجديد فايز الطراونة، ووصفه بأنه «يميني محافظ» و «يحمل نظرة عدائية تجاه المطالبين بالإصلاح»، في حين أكد الأخير سعي طاقمه الوزاري إلى إحراز تقدم يضمن إيجاد المزيد من القوانين الإصلاحية. في حي الطفايلة القريب من قصر رغدان بعمان، وهو بيت الملك الأقدم في البلاد؛ جلس عدد من الشبان الغاضبين في منزل أحدهم يخططون لافتات تطالب العاهل الأردني عبدالله الثاني بإصلاحات «حقيقية» تمكن الشعب من أن يكون مصدر السلطات، معتبرين أن آلية تعيين الحكومات من قبل الملك «لم تعد مجدية». الشبان المتحدرون من مدينة الطفيلة الجنوبية التي تعيش احتجاجات غير مسبوقة منذ أكثر من عام، تحدثوا كثيراً عما أسموها «خطط الدولة الرامية إلى إجهاض الحراك الشعبي». وتواترت الإجابات كسرد مكتوب: «ولاؤنا مطلق للوطن»، «ولن نتوقف أبداً عن الاحتجاجات». أحدهم أخذ يصرخ في ذلك المساء: «إننا نعيش كذبة كبيرة فلا إصلاحات حقيقية على الأرض». وأضاف آخر: «إن لم يتحقق الإصلاح فالتغيير بانتظار الجميع (...)». منذ بدء الاحتجاجات المستوحاة من أحداث الربيع العربي التي بدأت في الأردن منذ حوالى 15 شهراً، قام العاهل الأردني بتغيير 3 رؤساء وزارة؛ لم يقم أيٌّ منهم بتنفيذ إصلاحات تذكر، وفق المعارضة والحراكات الشعبية. مجلس الأعيان وشكّل نزول الأردنيين إلى الشوارع العام الماضي أول تحد حقيقي لسيادة الملك عبدالله الثاني التي بدأت تتأرجح بسبب هتافات الكتلة الشرق أردنية التي وجدت طريقها إلى تصدر المشهد، والمناداة بإصلاحات تبدأ باختيار المواطن حكومة نيابية، وتنتهي بوقف اختيار الملك أعضاء مجلس الأعيان؛ البوابة الثانية للبرلمان، وفق المعارض الطفيلي مجدي القبالين مقربون من القصر الملكي تحدثت إليهم «الحياة» فضلوا عدم الكشف عن أسمائهم، رأوا في اختيار الطراونة مؤشراً واضحاً على أن مطبخ القرار أعاد هيكلة المسار السياسي، ضمن رهانات جديدة مبنية على فرضيات متكاملة. الرهانات المذكورة تؤكد تراجع الضغوط الأميركية على المملكة الهاشمية في ما يتعلق بملف الإصلاحات السياسية، وتبني مراكز القرار قناعة راسخة تؤيد التوجه القائل بثبات النظام السوري إلى فترة أطول، وصولاً إلى الشعور بانتهاء موجة الربيع الديموقراطي العربي، وفرضية عدم وجود توافق داخلي على مشروع الإصلاح السياسي، ومحدودية الحراك الداخلي. والمعلومات التي يتم تداولها داخل مطبخ القرار؛ تشير إلى تراجع الدولة هذه المرحلة عن تقديم أي من التنازلات المفصلية للحركة الإسلامية والمعارضة السياسية المتحالفة معها، مثل الجبهة الوطنية للإصلاح التي يقودها رئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيدات، والاكتفاء بإجراء إصلاحات سياسية في ما يتعلق بقانون الانتخاب على قاعدة الصوت الواحد، وفي أحسن الحالات قانون الصوتين الذي قدمته حكومة الخصاونة. مصادر متطابقة داخل الحكومة الجديدة أكدت ل «الحياة» أن تياراً عريضاً داخل الديوان الملكي وجهاز الاستخبارات العامة، بدأ يلقي بدعمه وراء قانون الصوت الواحد، في حين يدعو فريق آخر إلى إفراز قانون انتخاب يحتوي على صوتين لكل مواطن؛ يكون الأول للدائرة الفردية، والثاني للقائمة على مستوى الوطن. وهو الخيار الذي رفضته المعارضة في أكثر من مناسبة مطالبة بقانون انتخاب يمنح أكثر من صوت للناخب ويعطي 50 في المئة من مقاعد مجلس النواب للقوائم التي تنتخب على مستوى الوطن. وكان الطراونة أثار استياء المعارضة وقوى الحراك الشعبي بتصريحاته التي اعتبر فيها أن قانون الصوت الواحد الذي أجريت عليه الانتخابات السابقة ليس مستبعداً. وفي السياق ذاته؛ توقعت مصادر سياسية إعادة ترتيب الصفوف داخل مطبخ القرار خلال الفترة المقبلة، وتوقعت تلك المصادر أن يتم الاستعانة بشخصيات من الوزن التقليدي العشائري، في سبيل إرضاء المحافظات التي باتت تشكل القلق الأكبر لدى المسؤولين. المعارض البارز لبيب قمحاوي يرى أن حكومة الطراونة «كرست هيمنة تيار معادٍ للإصلاح داخل مؤسسات القرار». ويرى هذا التيار أن السير بالإصلاح الذي تطالب به المعارضة «سيؤدي إلى تغيير شكل النظام الحاكم في الأردن». لكن قمحاوي يحذر من أن الارتداد عن الإصلاح أو المراوحة الحالية ستبقي أزمة المملكة على حالها، إن لم تتعمق في شكل أكبر. محمد أبو رمان الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية الممول من قبل الحكومة، يقول إن المؤشرات الأولية لتصريحات الطراونة «تعزّز القناعة بأنّ تحولاً جوهرياً يحدث في النوايا الرسمية تجاه الإصلاح السياسي، جوهره انتصار الحرس القديم والتيار المحافظ في فرملة المسار الإصلاحي، والعودة إلى الحسابات التقليدية». ويعتبر أن «الطموح بدخول الأردن زمن الربيع الديموقراطي تأجل إلى حين. ما حدث أخيراً يمثل انتصاراً للمحافظين». ويؤكد أبو رمان تراجع الاندفاع الأميركي خلف مشروع الإصلاح في الأردن لمصلحة عامل الاستقرار السياسي. وما يعزّز هذه القناعة وفق الباحث، تقرير قدمه المدير التنفيذي لمعهد دراسات الشرق الأدنى في واشنطن روبرت ساتلوف، الذي عاد أخيراً من زيارة إلى عمان، ودعا فيه الإدارة الأميركية إلى عدم الضغط على المملكة في موضوع الإصلاح السياسي والاكتفاء بما يتم إنجازه، وهو الخيار الذي تبناه عدد من الساسة الأميركيين الذين زاروا الأردن أخيراً. مفارقة تاريخية ويرى الكاتب والمحلل السياسي فهد الخيطان أن الطراونة أمام مهمة عاجلة وخاطفة سيؤديها ويرحل، لكنها ذات طبيعة حاسمة تقتضي معالجة التعثر في ملف الإصلاح، وبخاصة قانون الانتخاب، والتعامل مع أزمة اقتصادية خانقة. وقال إن «المهمة العاجلة لحكومة الطراونة التي قد لا تتجاوز الشهرين لا تحتمل الفشل، لأن لا أحد في الأردن سيحمّل الفشل لحكومته بل سيحملها الجميع للقصر الملكي». ويذهب الخيطان إلى اعتبار أن حكومة الطراونة تمر بمفارقة تاريخية عجيبة «فهي حكومة إصلاحية ثورية، يقودها سياسي محافظ». لكن الكاتب في صحيفة الرأي الحكومية سلطان الحطاب، يدافع عن الرئيس الجديد ويقول إنه «يلتقط الواقع، ويعرف حجم الفجوات التي تحتاج إلى سد». لافتاً إلى ضرورة استكمال الحكومة المهام الموكولة إليها، و «الانتقال من الدفاع إلى الهجوم عبر تقديم إنجازات سريعة وملموسة». وأدت الحكومة الجديدة اليمين الدستورية أمام الملك عبدالله الثاني، مكلفة إصلاحات تضمن إجراء انتخابات نيابية قبل نهاية عام 2012. وقدم رئيس الوزراء السابق عون الخصاونة أخيراً استقالته للملك بعد نحو ستة أشهر من توليه منصبه لتنفيذ إصلاحات في البلاد، فكلف الملك الطراونة (63 عاماً) تشكيل حكومة، فيما اتهم رئيس وزرائه المستقيل ب «التباطؤ» في الإصلاح. وكان الطراونة تولى رئاسة حكومة عامي 1998 و1999، وشهد عهده وفاة الملك حسين بن طلال وانتقال السلطة للملك عبدالله الثاني. وتظاهر آلاف المواطنين الجمعة الماضي في عمان وعدد من المحافظات، رفضاً ل «تغيير الحكومات من دون تغيير السياسات» وذلك بعد أيام على استقالة الخصاونة وتكليف الطراونة تشكيل حكومة. ويشهد الأردن منذ كانون الثاني (يناير) 2011 تظاهرات واحتجاجات تطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية، ومكافحة جدية للفساد.