وقفتُ أمام قاعة الدرس المكيفة، هممتُ أن أطرق الباب، لكنه فُتح قبل أن أفعل، بل قبل أن أرفع يدي. دخلتُ. لم يلتفت أحد، وكأني طيف غير مرئي. وقفتُ في آخر القاعة، ظهري إلى الحائط، المدرس يجلس أمام الطلبة، خلفه شاشة «بلازما» بحجم سبورة، تتري عليها علامات وأرقام. صمتٌ تام. يجلس الطلبة وأمام كل منهم «لاب توب»، أصابعهم جميعاً ومعهم مدرسهم تتحرك ميكانيكياً ضاغطة على الأزرار، رؤوسهم تتحرك بانتظام وسوياً بين «اللاب توب» وشاشة «البلازما». كان العنوان الرئيسي على الشاشة «أمثلة من أركولوجيا اللغة في شعر شوقي» بالحروف الديجاتيلية الكئيبة، وليس بالحروف التي تعطي أشكالاً منحنية. المنحنى أجمل من الزاوية. أكثر شاعرية. أخذت أتابع بصعوبة ما يظهر على الشاشة، عدد كلمة احبك، 45، طول الموجة الصوتية السائد لو قرأت الأبيات 60 سيكل، طول البيت c.m 8. المعلومات تتري بأسرع مما أستطيع متابعته. توقفت عن المتابعة. كنت آخر مدير للمدرسة لم يجتز اختبارات «الديجيتال». المدير الذي كان قبلي لحسن حظه أحيل إلى التقاعد قبل عامين، وأنا آخرهم . اتفاقية شرف أن أبقى هذه السنوات لأراقب نظافة المدرسة ثم أذهب إلى حال سبيلي. لا أدري ما دفعني اليوم لأخرق الاتفاقية، وأدخل أحد الفصول. انطفأت الشاشة، في صوت واحد أغلقت الحواسب وقاموا جميعاً، يحمل كل منهم «اللاب توب» في يده. منذ دخولي القاعة وحتى الخروج، لم يكن هناك صوت آخر غير صوت الإغلاق. انتظرتُ حتى خرج آخرهم وتبعتهم. كل طالب يتحرك في الممر من دون أن ينبس ببنت شفة. تذكرت عندما كنتُ في عمرهم، كيف كان الخروج من الفصل يتبعه كثير من الشغب والضحكات الحميمة، كل له رفيقه الذي يفضله. هؤلاء لا يفضلون أحداً. كيف يتعامل هؤلاء «الديجتاليون» مع شعر شوقي؟ الذي اعتبروه حفريات لغوية، كم من آهات كنا نطلقها إعجاباً بشعره. اليوم التالي دخلت مكتبي لأجد من ينتظرني، ومعه خطاب من الوزارة. «السيد (...) نتشرف بأن نخطركم أنه حفاظاً على صحتكم، قررنا إعطاءكم إجازة لمدة ثلاث سنوات، مع تمتعكم بالمزايا كافة. تقبلوا عظيم تقديرنا واحترامنا». دسستُ الخطاب في جيب سترتي، أخذت أعدو في الفناء، لم أسمع شيئاً ممن كانوا حولي، وخرجتُ من المدرسة. * كاتب مصري