أجدني أوافق الناقد عبدالله الغذامي رأيه في وصف الكاتبة رجاء عالم، ب «الأرستقراطية»، تمييزاً لها من نواح جمالية وفنية عن سائر كتّاب الرواية في السعودية. وإذا كانت اللغة تمثل العتبة الأولى للقاء القارئ بالمؤلف، فإن عتبة رجاء عالية، تعرش حولها الرياحين والزهور وعناقيد الكروم والروائح العطرة من كل صوب، ودرجات عتبتها من حجر صلد موغل في القدم، كأحجار جبال مكة. مع الجملة الأولى لرواية رجاء عالم الأخيرة: «سِتْر» (المركز الثقافي العربي) يجد القارئ نفسه أمام لغة روائية مُصَفّاة تجمع بين الشعر في موسيقاه وتراكيبه، والصوفية في بلورها وعمق معانيها. وهذه اللغة الروائية الحداثية تأتي ضمن سياق روائي مضفور بتأنٍ مدروس، يتناول قضايا الحياة الاجتماعية اليومية في المملكة العربية السعودية، عبر رؤية إنسانية عالية الحساسية، تذهب بعيداً في تفجير دمامل الوجع الأكثر احتداماً في علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع السعودي الراهن. وإذا كان البعض اتهم رجاء عالم في إصداراتها الأولى، بسبب من لغتها وطبيعة الموضوعات التي تتناولها، بأنها تهرب من مواجهة الواقع متخفية خلف غلالة غموضٍ، مُغرقة في وحشة عوالمها، فإنها لحقت العيّار لباب الدار، وبسطت عالمها الروائي الإنساني كأوضح وأجمل وأرقى ما يكون في رواية «سِتْر»، من دون أن تتنازل عن مفردتها ولغتها وجملتها وأسلوبها، ولا أن تتخلى عن انشغالها في رصد دقائق حياة الإنسان، كائناً منتمياً الى عالم مترامٍ يحيط به، ويتفاعل معه، ويشكل نغمةً صغيرة في معزوفة الكون الدائرة. كأن رجاء تقول: إن غموضاً أو نأياً لفَّ مقاصد كتابتي في أعمالي السابقة، لم يكن من باب الشخبطة، ولم يكن من باب التيه، بل كان نأياً لمن لا يعرف إلا لغةً تنبض مع وجيب قلبه، وكان إصراراً على تقديم المغاير والمختلف. وقد لا يعجب ذلك قارئاً جاء مضمراً استسهال دخول عوالمي، لكنني امرأة مكية تسحرها الصعاب، ويجننها اكتشاف السر في حبة الرمل، ولن أرضى لأحد بتسور قلعتي ما لم يكن قد عزم على مشاركتي مغامرة كتابة الحياة. في مكالمتي الأخيرة معها، قالت لي رجاء: «نساء مكة منحوتات من صخر جبالها»، ورددت عليها، قائلاً: «وأنتِ منحوتة من لغتك الصخر». تقدم رواية «ستر» كأعمال روائية سعودية كثيرة، صوراً دالة لحراك أو تفاعل المجتمع، في مختلف مناطق المملكة. المجتمع السعودي في صراعه وتوزعه الحاد، بين ماض وعادات، وبين حياة حديثة يتنسم ويعيش أحداثها في نبض عالم كوني صغير، متصل ومتواصل ومنكشف على بعضه بعضاً. عالم يؤمن بالديموقراطية والحرية والمساواة والعدالة، ولا يسمح بالانغلاق والعزلة، ولا يرضى للإنسان إلا أن يكون حراً في اختياراته وعزيزاً في كرامته، سواء كان هذا الإنسان امرأة أو رجلاً. إن الحياة الاجتماعية في السعودية، وعلاقة الرجل بالمرأة تحديداً، تعيش صراعاً يومياً حاداً وقاسياً، وربما استمر لفترة ليست بالقصيرة، في سبيل انتقالها من إرث اجتماعي منغلق، إلى حياة عصرية، تنتمي الى رونق أو روح اللحظة الإنسانية الراهنة. وربما شكّلت الأعمال الروائية السعودية المبدعة والجادة، إلى جانب بقية الأجناس الأدبية الأخرى، مساهمة ضرورية ومهمة تصب في خانة تسويغ هذا الانتقال وتسريعه، وذلك من خلال كشف الممارسة الاجتماعية المنغلقة وإدانتها. وهذا يؤكد الدور الطليعي الذي يلعبه الأدباء والمثقفون، في أي مجتمع من المجتمعات، ويؤكد من جهة ثانية وظيفة الفن الاجتماعية. رجاء عالم، في «ستر» تختار نماذج بشرية متنوعة ودالة لتحوك حولها خيوط قصص روايتها: مريم، طفول، بدر، عبدالمحسن، فهد، زايد، صالح، وغيرهم. نماذج بشرية تحترق في طريق رغبتها الإنسانية البسيطة، في أن تعيش كبقية خلق الله. رجل وامرأة وعلاقة حب مشروعة تظلل حياتهما. «مشاركة رجل لسقف، مشاركته لمساحة أطلقت داخلها حواساً فوق الحواس، صار جسدها متأهباً لعبِّ العالم، لابتلاعه والتلذذ بأدق تفاصيله، شوكه وعطره. أليس هذا ما يدربها عليه سرُّها؟» (ص199)، بهذه الكلمات تعبر مريم عن مشاعرها، لحظة اختلت بحبيبها بدر بعد طول معاناة. فهي وإن تكن قد تزوجت من قبله بجامع التحف عبدالمحسن، فإن قلبها ظل متعلقاً به لحين طلاقها من زوجها، مثلما ظل بدر يهيم بحضورها من حوله، على رغم عيشه مع زوجته وابنتيه. «مريم مريم يا من ولدتني من غير ميلاد وبعثرتني في الخلق لأشقى»، «هل عندكِ شك؟ منذ ولدتُ وأنا ألهث وراءك، وخطوتك واسعة مثل عملاق مشتعل الذيل». (ص 131). إن العلاقة بين الرجل والمرأة كانت على الدوام الثيمة الأكثر حضوراً في الأعمال الروائية حول العالم، لكن ما يميّز الأعمال الروائية النسائية المبدعة، هو أنها تنحاز الى بنات جنسها، ناطقة بلسانهن وهمومهن وآمالهن. وإذا كانت هذه المرأة مهمشة، ومضطهدة، وغارقة في معاناة قاتلة لكونها أنثى، فإن تلك الأعمال تكتسب قيمة إضافية تضاف الى قيمتها الفنية. تقدم «سِتْر» أبطالها وكأنهم عاجزون عن ممارسة حياتهم في وطنهم الأم، بعد أن ضُيّق الخناق عليهم. فحين دوهم محترف عبدالمحسن وحمل المداهمون كل شيء في صناديق: «الصدمة التي تلقتها مريم حين دخولها المحترف تركتها مخدرة لأيام، لم يتركوا بقعة لم تنتهك» (ص91)، وكان أن اتخذ عبدالمحسن قراره: «لم يعد من مقام لي في هذه البلد، أعينهم تطاردني أينما ذهبت» (ص 92). والأمر ذاته ينسحب على طفول وزوجها فهد في سفرهما إلى أميركا للعيش هناك، وكذلك زايد في اقترانه بامرأة أميركية، كما أن لحظات وأيام مريم الأجمل توزعت بين لندن وشرم الشيخ، وحين حطت رحالها في الرياض، لم يكن لها ولزوجها الثاني الشاعر، وفق ورقة زواجهما العرفي، إلا انتظار رحمة موافقة أخويها على زواجهما الشرعي، مما دفعهما لاستئجار شقة صغيرة. لكن هذه الشقة لم تنج من الأعين والملاحقة، مما دفع أم مريم لاستيقافها قائلة: «تخيّلتِ أنكِ تتخفين! أفيقي، رأسك في السحاب لكن عيونهم على جسد النعامة! عرفوكِ على رغم النقاب على وجهك، لجسدك لغةٌ يعرفها كل من وقع بصره عليك، مثل دمية خزف، أنتِ إعلان متنقل عن الهوية، أنت فضيحة متنقلة!». (ص8). أي حياة تستطيع أن تعيشها المرأة حين تكون فضيحة؟ تنازلت مريم عن كل إرثها من أبيها مقابل ورقة يصرّح فيها شقيقاها عن موافقتهما لها بالسفر من دون محرم. أي سجن تعيش فيه المرأة، حين يصبح مجرد سفرها يتطلب تنازلاً عن حقوقها؟ لحظة تقف مريم أمام القاضي بصفتها ولية نفسها، تقول له: «إنني مُنحت حق تزويج نفسي، فما المانع من ممارستي لهذا الحق؟ ثم بوسعك تنصيب نفسك يا شيخنا ولياً لإقرار هذا الحق الشرعي». بعد تردد استسلم: «الله يستر عليك، لا تفتحي علينا باباً». (ص261). إن رفض القاضي وحده هو الذي يفتح كل الأبواب، وربما يأتي المشهد اللاحق لرفض القاضي صادماً، حين تنفجر، أمام باب المحكمة، السيارة التي يقودها زايد، الشاب الذي سُدت بوجهه كل الأبواب، ليعيش مع زوجته بسلام. فهل الرفض والتشدد هما الوجه الآخر للإرهاب والموت؟ ربما الكتابة وحدها قادرة على حمل الناس إلى حيوات وأماكن وغايات يعجز الواقع عن حملهم إليها. في مقابلة أجراها أحمد الزين مع الكاتبة رجاء عالم، قالت: «هناك كُتَّاب يجعلون من الكلمة كوناً، هؤلاء هم السحرة الذي أرحل وراءهم». وأظن أن قراء كثراً يرتحلون وراء سحر رجاء بأعمالها. * روائي كويتي