يُقدّم باسل عبدالله في روايته الصادرة حديثاً عن دار «الفارابي» تحت عنوان «خطاب راكان في الزمان وأهله» عالماً له نظامه ومقاييسه وطقوسه الخاصة. هو ليس عالمنا وإنما عالم يُجاوره. يُشبهه. حتى يكاد يكونه. روايته الأولى هذه نسجها بخيوط الخيال... الأحداث، الزمان، المكان، الشخصيات... أجواؤها كلّها مُتخيّلة. وهذا ما تعمّده الكاتب مُحاولاً في مقدّمة كتابه التي وضعها بعنوان «توطئة» نفي أيّة علاقة بين الرواية والواقع: «هي لا تمتّ بصلة بتاتاً إلى تقاليد أي مجتمع من مجتمعات هذا العالم». إنما «الخيالي» هنا ليس إلاّ تكريساً للواقع، وهذا ما نُسمّيه أدبياً ونقدياً ب «المتخيّل المقبول» Imaginaire plausible. فنجد أنّ مناخ «خطاب راكان في الزمان وأهله» انعكاس لمناخنا وعالمنا وزماننا نحن. راكان هو الشخصية-المفتاح في الرواية. وهو نفسه الأمير زايان. أحد أحفاد «واوان»، حاكم الجزيرة ومرشدها الأول. نشأ في ظلّ أجواء تربوية صارمة فرضت عليه التقيّد بتقاليد وطقوس ومبادئ خاصة وغريبة في آن. تميّز منذ حداثة سنّه بالذكاء والمشاغبة وكثرة الأسئلة والاستفسار حتى صار يُعرف ب «الوقح» و «المتمرّد». أسئلته الوجودية لم تكن تُعجب أساتذته ولا كهنة معبد ياوار. فكان غالباً ما يصطدم بردود فعل عنيفة وإجابات غير شافية: «الصبيّ في مثل عمرك يجب أن يُفكّر في اللعب وتلقي الدروس فقط، وليس في طرح الأسئلة الوقحة» (ص23). في الثامنة عشرة توجّه شغف زايان نحو الاطلاع على تاريخ الجزيرة ومبادئها. فلم تعد الدروس المفروضة عليه تكفيه، بل تجاوزت قراءاته الكتب الملزوم بها لتشمل البحث في الزاوية المخصصة للمراجع الفكرية والإيديولوجية في المكتبة الكبيرة. بدأ زايان الشاب يرتاب بالتعاليم والواجبات المفروضة عليه. فصار يبتعد شيئاً فشيئاً عن بعض المبادئ التي تربّى عليها من دون أن يقتنع بها، ما أثار غضب والده لاواي عليه، قائد حرس الجزيرة وجنودها. طبيعته الفضولية دفعته إلى اكتشاف العالم الخارجي. أراد أن يبحث عن هويته الضائعة خارج قوانين العائلة وقواعدها. فاتّخذ من الغابة ملجأً له. هناك تعرّف بشاب اسمه «تاتان». أخفى زايان هويته الحقيقية وعرّف بنفسه على أنّه غريب عن هذه الديار يُدعى «راكان». كان لصديقه الجديد تاتان مجموعة من الرفاق الذين يجتمعون أسبوعياً في حلقة نار ليناقشوا موضوعات فلسفية وإنسانية واجتماعية تخصّ الحياة في الجزيرة وتعاليمها ومفاهيم أخرى كبيرة مثل الحريّة والعدالة والحقوق. أثارت خطابات هؤلاء الرجال المتنورين اهتمام راكان الذي شارك في حلقاتهم السريّة. إلاّ أنّه سرعان ما يكتشف اعتقال والده لهم باعتبارهم مخرّبين. مشهد الرجال منساقين كالنعاج على رغم معرفته بسلامة نياتهم دفعه إلى إحداث انقلاب يصبح فيها راكان أحد أهمّ قادتها. شخصية راكان ليست شخصية عادية. انها شخصية مزدوجة وغنية أدبياً وإنسانياً. والمدارس الأدبية على اختلاف العصور تتفّق على أنّ أبطال الرواية ينتمون إلى إحدى الطبيعتين: إمّا أن يكونوا «ذاتاً فاعلة» أو «ذاتاً منفعلة». والمفارقة أنّ راكان، بشخصيته الأدبية الثرية، هو الاثنتان معاً. إنّه ذات فاعلة مستقلّة بدءاً من معارضته لبعض قوانين الحكم منذ أن كان صغيراً. وهو أيضاً ذات منفعلة لكونه تأثّر بالمجتمع الجديد الذي صُدم فيه «مجتمع رجال الغابة»، كما أنّ الظلم الذي تعرّض له أصدقائه والأخبار الغريبة التي سمعها عن حياة أهل الجزيرة صنعت منه كائناً جديداً بإسم مختلف وطموح مغاير. راكان، بطل الرواية، هو أيضاً الراوي. إنما هو ليس الراوي الوحيد في هذا العمل. قصّة راكان نتابعها بضمير المتكلّم «أنا». نقرأ الرواية على أنّها المخطوطة التي دوّن فيها سيرة حياته بخطّ يده. هذه المخطوطة التي وجدها صدفة شوراس بعد عقود من الزمن. شوراس، الراوي الثاني في الرواية، يتجلّى في مقدمة الكتاب وخاتمته فقط. دخل قبو القصر بأمر من المرشد نومان (أحد أحفاد راكان) لاستكمال موسوعته التاريخية التي كُلّف بتحضيرها. وقع هناك على خزنة مُقفلة بإحكام ومدفونة تحت كمّ هائل من المخطوطات والكتب. المخطوطة قديمة جداً. إلاّ أنّ عنوانها جذبه لقراءتها: «أخرجت هذه المخطوطة من القبو، لأنها أهمّ ما ظفرت به يداي ذلك اليوم، وأخذتها معي إلى منزلي. وبعد أن أزلت عنها بعض ما استطعت إزالته من غبار، جلست في مكتبتي أقرأ ما احتوته صفحاتها». يكتب باسل عبدالله روايته الأولى بلغة شعرية تشوبها بعض الخطابة والمباشرة أحياناً. إلاّ أنّ النقطة التي تُحسب للكاتب تكمن في الحيلة التي اعتمدها في صناعة عالم مغاير لم يوجد أصلاً إلاّ للحديث عن عالمنا نحن وتعصبّنا وخوفنا ورضوخنا. أمّا ثورة راكان وتمردّه فهما ليسا إلاّ ثورة الشباب أو «الفسابكة» الذين هزّوا بشعاراتهم الرنّانة العالم كلّه.