لا يختلف اثنان على مدى المساهمة الفعالة التي قدمها النظام السوري لتكريس ثقافة العنف والدم في المجتمع السوري، ورغم علمنا مسبقاً بأن هذه الثقافة موجودة في تاريخنا السياسي والاجتماعي إلا أن العرب عموماً والسوريين خصوصاً كانوا يتفاءلون في كل حقبة تاريخية بمن ينتقل بهم إلى المدنية والحضارة والتعايش السلمي، غير أنهم كانوا لا يفيقون من مأساة حتى يسقطوا في أخرى، وهكذا كان نظام البعث حلقة من حلقات هذا المسلسل العنفي الدموي وهذا لن يكون إعفاء له من أية مسؤولية، بل على العكس فإن ذلك يجعله يستحق محاكمة خاصة تليق ليس بمجرمي الحرب وحسب، بل ومجرمي الإنسانية والحضارة البشرية. مع مجيء بشار الأسد إلى السلطة في لحظة فارقة في تاريخ سورية وهي تدخل القرن الحادي والعشرين، استبشر الكثيرون في سورية برؤية هذا الشاب الذي يدخل قصر الشعب ويتسلم الحكم على طبق من ذهب، لم يقف في وجهه أحد، وصمت السوريون وكأنهم على كوكب آخر، لم يفهم معظمهم كيف ساد الصمت آنذاك وكذلك في 2007، ولكن لكل مرحلة ظروفها وقد يقف السوريون اليوم في وجه الأسد ليقولوا له أنهم قد أعطوه بالفعل الكثير من الفرص التي رفض على الدوام استغلالها بل وزاد من تهميشهم. كانت ثقافة القتل والعنف على وجه الدقة موجودة في المجتمع السوري على مدى عصور طويلة، خصوصاً أن هذا المجتمع عاش مئات اللحظات العصيبة في تاريخه الطويل، مما أورث السوريين نوعاً من العصبية وسرعة رد الفعل، وهذا نعرفه جميعاً كسوريين وهو ليس معيباً في حقنا غير أن استعماله في غير موضعه يؤدي غالباً إلى الكثير من المشاكل والشد العصبي والقطيعة الاجتماعية أحياناً على أتفه الأسباب. عندما فرغ حافظ الأسد من مجزرة حماة وبدأت حقبة التغييب القسري والاعتقال لمجرد الشبهة، اضطر ملايين السوريين إلى السكون بعدما رأوا من بطش الأسد وظلمه الذي كان بلا حدود. إلا أن مشاكلهم في ما بينهم تفاقمت نتيجة الضغط السياسي والاجتماعي الرهيب الذي مارسته السلطة الغاشمة، وكان أن حققت السلطة هدفين في آن معاً: السيطرة على الشعب وضربه في أعماق وحدته وألفته. كان الكثيرون يحلون مشاكلهم بأيديهم، فكان من الطبيعي أن يتشاجر المواطن مع الموظف الحكومي ومع سائق سيارة الأجرة ومع زوجته وأولاده لأن تلك كانت المناطق التي يستطيع تفريغ غضبه الداخلي فيها، وهكذا تفاقمت المشاكل الاجتماعية والأسرية بشكل غير مسبوق وأدت إلى انفجار اجتماعي سلبي لم تكن نتيجته بكل الأحوال التغيير نحو الأفضل بل على العكس أدى إلى انكفاء فكري وثقافي ومزيد من التدين والانغلاق. قامت الثورة السورية اليوم على أكتاف من لم يشهدوا أحداث الثمانينات، إنهم يقومون اليوم بما عجز آباؤهم عن القيام به، وهذا ليس انتقاصاً من آبائنا غير أنه عتب عليهم أن لم يستطيعوا تجييش حراك شعبي جارف. بدأ السوريون ثورتهم البريئة في بادئ الأمر على شكل تجمعات محدودة أمام السفارة الليبية تعبيراً عن الغضب مما يمارسه القذافي، وكذلك اعتصامات بسيطة أمام وزارة الداخلية للإفراج عن المعتقلين المختفين، وعلى شكل مسيرات للتنديد بالفساد في درعا. إلا أن النظام الذي لم يتغير قيد أنملة كان للجميع بالمرصاد، فنزلت البنادق في وجه الشعارات في معركة غير متكافئة ظناً من النظام أن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه وأن درعا يمكن أن تكون حماة 2012، ولكن السوريين قالوا كلمتهم: لا نريدكم وللأبد. أعاد النظام وشبيحته صور القتل إلى الواجهة في مجتمع كان يرى هذه الصور "هناك" بعيداً: في فلسطين وجنوب لبنان والعراق وغيرها، إلا أن كل ذلك بقي حبيس نشرات الأخبار بينما تابع السوريون معيشتهم الطبيعية رغم كل الهزات التي ضربت المنطقة. وشيئاً فشيئاً بات منظر القتل يأخذ مجرى طبيعياً في وجدان السوريين وأحلامهم، فالجثث التي كانت تعاد إلى أهالي الضحايا وقصف المنازل والأحياء رسخ لدى الشعب بشكل عام أن الأساليب "الحضارية" في التعبير عن الرفض والمعارضة لا تنفع مع نظام همجي متعجرف، وهذا ما يتضح من تجارب الإضرابات والاعتصامات التي تمت مواجهتها بأسوأ ردود الفعل، وهو ما فجر كل مكنونات الغضب لدى السوريين على هذا النظام المجرم ودفع آلاف العسكريين الى الانشقاق بالتالي تحولت الثورة إلى التسليح، خصوصاً مع دخول بعض الأطراف الخارجية على الخط، رغم الضعف الواضح في حجم هذا التدخل، إلا أن أحداً لا يعلم ماذا يجري وراء الكواليس. لا يمكن مطالبة أي إنسان فقد بيته أو عائلته بالتعقل واستمرار السلمية ببساطة، فالغضب السوري الذي كان ينصب في ما مضى على العائلة والجيران وغيرهم أصبح متحداً اليوم باتجاه النظام، وهذا ما يؤسس لدخول ثقافة عنفية جديدة كرد فعل على عنف النظام. ولكننا لا نخفي تخوفنا من استمرار هذا الغضب العنفي إلى ما بعد الثورة، خصوصاً في حال انهيار الدولة بالكامل وسقوط النظام، حيث أنه بات من الواضح غياب أية قوة مجتمعية أو سياسية أو حتى عسكرية قادرة على الإمساك بزمام الأمور، مثلما حدث في تونس أو مصر. ولهذا الأمر محاذيره الشديدة التي قد تهدد ليس المجتمع فحسب، بل والكيان السياسي للدولة. إن استمرار أمد الأزمة في سورية هو مطلب دولي، فلا يمكن تفسير أن كل هذه القوى العظمى ومجموعات الأصدقاء ومئات العقوبات لم تستطع حتى زحزحة هذا النظام أو سحب الشرعية منه بأي شكل، وإن الدعوات الهزيلة لتنحي الأسد أضعف حتى من دعوة أب لخروج ابنه من المنزل. وإذا كان النظام في سورية يعتبر أنه يتعرض لمؤامرة كونية فإن الأصح أن الشعب السوري هو الذي يتعرض لمؤامرة كونية من العيار الثقيل، فالعقوبات المفروضة على سورية لم تطاول النظام بمقدار ما طاولت الشعب الذي يتعرض لموجة غلاء أسعار وندرة في المنتجات بشكل غير مسبوق، كما أن ارتفاع معدلات الجريمة والسرقات بسبب البطالة الجارفة التي ضربت قطاعات واسعة من الشعب السوري باتت تهدد فعلاً كل الكيان المجتمعي السوري. ولهذا نسجل تخوفنا من تحول القضية السورية إلى ما يشابه الحصار على العراق في التسعينات من القرن الماضي حين حوصر العراقيون بينما بقي صدام حسين على هرم السلطة. إن ما نحلم به جميعاً هو مجتمع مختلف ومتآلف في آن معاً، مجتمع متنوع ومتعايش، يعترف بالطائفية كمكون أساسي في المجتمع بينما يعترف بأن وحدة هذا المجتمع هي سر قوته. أما ثقافة القتل فلن تؤدي بالجميع إلا إلى الخراب، ونخشى أن يأتي يوم يكون فيه غاية طموحنا توحيد أحياء قرية كانت في ما مضى جزءاً من وطن اسمه سورية.