ليس من الخيال المحض، إنما من الخطاب التاريخي تنطلق الرواية التاريخية. حيث الحضور الطاغي للمادة التسجيلية المعبأة في قالب سردي. ورواية «القرصان» لعبد العزيز آل محمود، الصادرة حديثاً عن دار بلومزبري، تؤكد هذا المنطلق. فهي وإن كانت تتأسس على الإبداع التخييلي، إلا أن صلتها بالواقع لا تنعدم. فهي من القوة بحيث يمكن أن تتحول إلى وثيقة. إذ يماهي عبد العزيز آل محمود بشيء من الحذر، ما بين الخطابين التاريخي والروائي. بمعنى أن التاريخ المراد توطينه في السرد، وبما هو نص سابق، في مقابل الرواية بما هي نص لاحق بالمقابل، يتعالقان بشكل متجانس، بحيث يبدو النص التاريخي المتعلق ببطله (أرحمة بن جابر) في حالة من الحلول التام داخل النص الروائي. من هذا المنطلق، حاول توظيف ما تكرّس في الذاكرة من أحداث وأوهام وإشاعات حول أرحمة، الذي تُصنّف أخباره ضمن ملف التاريخ المسكوت عنه، بصورة أقرب إلى الاحتمال منها إلى الحقيقة القارة الناجزة. إذ تراوح سيرته ما بين القرصنة ضد السفن التجارية والانتقام من أبناء عمومته، الذين يرتبط معهم بروابط قبلية، بحسب المرويات. إذ ينتمي إلى «الجلاهمة» الفرع الوحيد الذي لم يحقق أي سلطة أو مكسب سياسي. ولذلك اتخذ لنفسه سلسلة من المخابئ في الخليج لإرهاب السفن وقرصنتها. اذ فرض سلطته على «خور حسان» المعروف باسم «الخوير». وهناك بنى قاعدته المسماة «وكر الثعلب». كما كانت له منصة انطلاق من «قلعة الدمام». وقد تواترت الأخبار عن اشتراكه في الدفاع عن البحرين عندما تعرضت لغزو فارسي، كما شارك في الهجوم على البحرين في وقت لاحق. ربما لهذا السبب تعمّد آل محمود المماهاة ما بين الحضور التوثيقي للتاريخ، ونعومة اللمسة الروائية. وذلك لطمأنة القارئ بشكل ضمني، إلى أن التاريخ المدسوس في سياق الرواية هو بمثابة الحقائق، وليس مجرد تخرّصات شخصية. ليعصمه من نوبات التخييل الجامح. وإن لم يعد يشكل تاريخاً بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما استحال إلى حكاية حاضنة لوقائع ذات صدقية ومرجعية على أرض الواقع. من دون توريط السرد في سجال المرويات المتعدّدة والمتضاربة. كحكاية اعتدائه على سفينة لشركة الهند الشرقية، التي تقول بعض الروايات إن حِلفه مع البريطانيين انتهى بعد اعتدائه على سفينة لشركة الهند الشرقية محملة بالخيول، فيما تميل «القرصان» إلى أن غولاب ممثل الشركة في البحرين هو الذي اختلق قصة اختطاف سيدة بريطانية وابنتها من سفينة أخرى. الكتابة السردية فعل يقوم على التملّص من صرامة الحقائق. وهذا هو بالتحديد ما حاوله آل محمود، من خلال تقصّده انتهاك ما استوطن الذاكرة الجمعية كمقدس، انتصاراً لقدسية الخيال، الذي يشكل جوهر السرد. وعلى هذا الأساس أحدث بعض التعرجات في حدة الخط الأحادي لتاريخ بطله الأسطوري، وشخصيته المختلف عليها. في ما يبدو محاولة لتحرير سيرته من انضباطاتها الأفقية، المكرّسة في الأذهان، والتوغل في أعماق ذاته الإنسانية، التي لم تتعرض للمقاربة من قبل ما يرويه التاريخ السكوني، الغارق في الحكاية والخالي من الخطاب. قصة «أرحمة بن جابر» انتهت منذ زمن طويل. ومن لحظة انقضائها استأنف آل محمود الخطاب. أي أنه استمد مادته من التاريخ، لينسج روايته، في مستواها الحكائي. اذ يشي النص باطلاعه على ركام هائل من الوثائق، التي كانت نائمة في أرشيف أخرس، بما تختزنه تلك الصفحات من معلومات عن تحالفاته مع من تصطلح الرواية على تسميتهم بالقواسم والبريطانيين. كما تصف حتى بشاعة وجهه الشرس، المغطى بطعنات الخناجر والسيوف. وعينه المعطوبة. لكنها لا تهب إطلالة على دخيلة هذا القرصان القاسي، الذي لم يتردد في رمي ابنه (بِشر) في البحر وهو مكبل اليدين. المصاب بكآبة حادة بعد أن تسبّب في مقتل الشيخ حمد بن سلمان، وسرقة ابنه السيف الهندي المرصّع بالجواهر، الذي غنمه من سادلر، لدرجة أنه صار مستعداً للموت في أي لحظة. ولأن آل المحمود يدرك معنى أن تتجاوز الرواية التاريخية مستوى الحكي، وبالضرورة تفارق التاريخ، بحسب التصور اللوكاتشي، استطاع (تحبيك) كل تلك المادة التاريخية، وما يتداعى عنها من معطيات توثيقية، ليدير الصراع الدرامي في الخليج العربي، الذي اكتظ حينها بأساطيل من السفن الحربية والتجارية (ميركوري، إيدن، ليفربول، كرلو) في مقابل سفينة أرحمة بن جابر المشهورة (الغطروشة) التي لقي حتفه على ظهرها. في لحظة حرجة وغائمة من لحظات التاريخ. من خلال شخصيات مقدودة من الحدث ومتوائمة مع صيرورة السرد في آن. كالعقيد جون مانسن، والمقيم البريطاني بروس، وابن عفيصان، وجون مدير الإرسالية في البحرين، وخليل أغا مسؤول الحامية التركية في القطيف والأحساء، وإبراهيم باشا). هكذا تستعرض الرواية شكلين من الحوادث والأخبار، بعضها مستجلب من الذاكرة الشعبية والتسجيلية حول الأماكن والوقائع والشخصيات، وبعضها يصنع نفسه بنفسه في صلب النص، وذلك ضمن قالب حكائي انبساطي. يمكن اختصار بعض جوانبه الحامية في عبارات القبطان (لوخ) قائد سفينة «إيدن» الذي وصف مهمته بالقول: «لقد أتيت إلى الخليج لأُخلِّص هذه البحيرة من القراصنة والأوغاد، ولكني وجدت نفسي أعقد الاتفاقات معهم، فقد اتفقت مع قرصان مشهور يُدعى أرحمة بن جابر على أن يترك سفننا في حال سبيلها على أن نتركه يحارب أعداؤه من دون أن نتدخل». وكان ذلك هو العام الذي أعلنت فيه بريطانيا هيئتها العامة لمحاربة القرصنة البحرية في منطقة الخليج العربي. إذ أوكل السير إيفيان نيفيان، رئيس المجلس والحاكم العام البريطاني في بومبي للكابتن جورج فورستر سادلر، مهمة إنهاء ذلك الوجود، كما جاء في الرواية «إن هذه المنطقة حيوية بالنسبة إلينا، إنها شريان الحياة الذي يجب ألا نخسره». وبتوغله في تلك التمفصلات التاريخية الحساسة، يؤكد آل محمود ألا رواية تاريخية من دون حمولات سياسية. فالهيمنة السياسية على الحدث طافحة، بل مهيمنة كقيمة بالمعنى النقدي. وهي تستعرض لحظة على درجة من الغموض والمراوغة. وربما لهذا السبب، آثر التصالح الآمن مع التاريخ الذي يعادل الذاكرة في هذا الصدد، عوضاً عن إثارته كنتوءات سجالية، قد تربك السرد، أو تُفقد التوتر الدرامي للحدث خاصيته، وكأنه يراهن على سحرية الحكاية أكثر من رهانه على قيمة التأريخ. وهو الأمر الذي يمكن تلمّسه في التحولات البنيوية للمتخيّل الذي قامت عليه أوتاد السرد. إذ يوحي النص بقابلية التسليم بشكل العلاقات الجديدة، وتقبّل ما يمكن أن يُنظر إليه كخسارات قابلة لإعادة الصياغة والترميم. والاكتفاء بتفكيك قصة (أرحمة بن جابر) الملغزة، وتحويلها إلى مدخل حكائي لفهم ملامح حقبة تاريخية. * ناقد سعودي.