كان من الطبيعي أن تثير زيارة مفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة إلى القدسالشرقية وصلاته في المسجد الأقصى الجدل الذي أثارته بين الفلسطينيين وبين المسلمين بوجه عام. يبرر هذا الجدل الموقع الديني للرجل، والموقع السياسي للقدس، وهي في قلب الصراع بين الفلسطينيين والعرب من جهة وإسرائيل من الجهة الأخرى، كونها العاصمة الموعودة للدولة الفلسطينية و «العاصمة الأبدية» المزعومة للكيان الإسرائيلي. ومع اختلاط الديني بالسياسي، يصبح الحديث عن زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، مثيراً لشجون سياسية، على رغم الاتفاق على أهمية الزيارة من جانبها الديني، كونها فريضة لمن استطاع إليها سبيلاً. لكن كيف السبيل، والطريق إلى القدسالشرقية معبّد بكل الألغام، وعلى الأخص بلغم اعتراف الزائر، مباشرة أو مداورة، بسيادة الاحتلال الإسرائيلي على المدينة. وإذا كان صحيحاً أن المفتي بصفته الفردية، استطاع القيام بالزيارة من غير أن يضطر إلى ختم جوازه من قبل السلطات الإسرائيلية، إذ تم ترتيبها بالتنسيق مع السلطات الأردنية، ورافقه فيها الأمير غازي بن محمد ابن عم الملك عبدالله الثاني، فإن مثل هذه الفرصة غير متاحة لملايين العرب والمسلمين، من الذين تتم دعوتهم إلى دعم القدس من خلال زيارتها، للتضامن مع أهلها والتأكيد على عروبتها، كما دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس في «مؤتمر القدس» الذي عقد في الدوحة في شهر شباط (فبراير) الماضي. هذا في الجانب السياسي، وهو الجانب الذي يصل النقاش حوله إلى حدود تقدير الفائدة التي يمكن أن يجنيها الفلسطينيون وقضيتهم من فتح باب كهذا. إذ لو كانت الزيارات العربية والإسلامية إلى القدس هي التي ستحسم مصير المدينة ومستقبلها لما كان في الأمر جدال، غير أن الاستثمار السياسي الخبيث لزيارات كهذه هو الذي يجب التنبه إليه، وهو بالضبط ما أقدم عليه الإسرائيليون عندما سارعوا إلى التأكيد أن زيارة مفتي مصر تمت بالتنسيق معهم، وعلى رغم النفي الذي كرره الرجل. أما في الجانب الديني، فان الزعم الإسرائيلي بان أبواب الأماكن المقدسة في القدس، وفي طليعتها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، مفتوحة لكل حاج وزائر، هو خدعة يعرفها الفلسطينيون جيداً، وهم الذين تحرمهم السلطات الإسرائيلية من زيارة المسجد والصلاة فيه أيام الجمعة إلا بشروطها، فضلاً عن أعمال الهدم الجارية في محيطه والدعاوى المتعلقة بهيكل سليمان تحته. ذلك أن الأولى أن يفتح الإسرائيليون هذه الأماكن في وجه أبناء الأرض الفلسطينية أولاً، قبل دعوة الآخرين إلى زيارتها. كل هذا يجب أن يدفع بالجدل حول زيارة المفتي جمعة للقدس إلى موقعه الحقيقي، أي إلى جدل حول الفوائد والأضرار السياسية التي يمكن أن تترتب على هذه الزيارة، وخصوصاً أن موقع مفتي مصر له معنى أكثر اتساعاً من موقعه الديني المحض، وعلى رغم أن المفتي لم يشأ أن يعطي زيارته أي بعد آخر، واعتبر زيارة المسجد الأقصى «منّة من الله» كما وصفها. مع ذلك فان استسهال البعض في التخوين وذهابهم إلى المقارنة بين زيارة المفتي وزيارة الرئيس الراحل أنور السادات إلى القدس، وإسراعهم في شن حملة على المفتي واتهامه بالتطبيع، ليس مبرراً، وخصوصاً أن الفارق بين الزيارتين بيّن لمن شاء أن يراه. فزيارة السادات كانت إلى الكنيست، قلب الدولة الإسرائيلية، وهو اعتراف بها لا جدال فيه، مهما كان الكلام الذي قاله السادات آنذاك في خطابه الشهير. غير أن مفتي مصر ذهب حاجاً إلى مكان لا خلاف على موقعه الديني في قلوب ملايين المسلمين، وتم ترتيب زيارته مع الجانب الأردني، المسؤول عن شؤون الأماكن المقدسة في القدس، كما زار كنيسة القيامة والتقى عدداً من رجال الدين المسلمين والمسيحيين، ولقيت زيارته ترحيباً من السلطة الفلسطينية، وأكد الرجل أنه لم يلتقِ إسرائيلياً واحداً خلال زيارته.