ترصد حلقة ضيقة من المسؤولين اللبنانيين والقادة السياسيين ما ستؤول إليه مهمة المبعوث الدولي-العربي الى سورية كوفي أنان، ومدى صمود وقف النار وخطوات التهدئة الأمنية والعسكرية تمهيداً للبدء في عملية سياسية، وسط تباين في تقويم المرحلة المقبلة وانعكاساتها على لبنان. وينقسم القادة اللبنانيون في النظر الى المرحلة الجديدة بعد أن بدأت مهلة أنان، والتي أيّدها مجلس الأمن في بيان، وما سيليها. فريق يرى أن النظام السوري والرئيس بشار الأسد اجتازا الخطر وبات هناك بحث عن حل للأزمة تحت سقف بقائه في الحكم، وفق ما قاله الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله حين أكد أن خيارات إسقاط الأسد واستخدام العنف ضده والتدخل الخارجي العسكري انتهت، ولا بد من الحوار معه. وفريق يرى أن من الصعوبة بمكان اعتبار الأزمة انتهت وأن عنف المواجهة التي حصلت، على افتراض أنها ستتوقف، لا يعني أن المعارضة والحراك الشعبي على الأرض سيقبلان ببقاء النظام بعد حجم القتل الذي حصل، وأن الافتراض بأن الحل قريب غير واقعي. إلا أن الفريق الأول، وفق أوساط سياسية وثيقة الصلة بفريق «8 آذار»، وجد في التقدم الذي حققه النظام عسكرياً، بدءاً من احتلاله حي بابا عمرو في حمص مطلع شهر آذار (مارس) الماضي، ثم زيارة الأسد المنطقة أواخر الشهر ذاته، مناسبة للعودة الى التشدد في لبنان ولدعوة حلفائه فيه الى الكف عن سياسة المراعاة حيال خصومه الذين يتحركون ضده ويستقبلون النازحين وكذلك بعض المعارضين، ويعملون على تقييد حركة القوى الأمنية والجيش اللبناني في التصدي لتهريب السلاح والمسلحين وملاحقة المعارضين وتسليمهم الى السلطات السورية، والتي جاءت على شكل لوائح اسمية أبلغت دمشق المسؤولين اللبنانيين بها. وتزامن ما يسميه بعض الأوساط «انتعاش» دمشق وحلفائها من التقدم العسكري الذي حققته وتبعه تشديد الحملة على إدلب ودير الزور وريف دمشق، مع إبلاغها رسائل غير مباشرة الى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بأن القيادة السورية لم تعد تقبل بأن تسعى الحكومة اللبنانية الى إرضاء الدول الغربية والخضوع الى ضغوط هذه الدول لجهة المساهمة في تضييق الخناق على دمشق اقتصادياً ومالياً عن طريق زيارات الوفود الأجنبية الى لبنان، ومنها زيارة ديفيد كوهين نائب وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية والتي نبّه خلالها الى وجوب عدم السماح بتهرب النظام السوري باستغلال النظام المصرفي اللبناني، من العقوبات المفروضة عليه. واعتبرت القيادة السورية في هذه الرسائل أنها تفهمت سابقاً حاجة الحكومة الى إرضاء الغرب في مسألة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وبسياسة النأي بالنفس عن الأزمة السورية في المحافل الدولية والعربية تجنباً لرد الفعل الغربي حيال تعاون الحكومة اللبنانية مع النظام في سورية، إلا أنها لم تعد تقبل باعتماد هذه السياسة الحيادية تجاه ما يجري في سورية وأن على حلفاء دمشق أن يقفوا الى جانب النظام دونما لبس وأن يكفوا عن الأخذ بالضغوط الغربية على الحكومة. ويرى مصدر واسع الاطلاع على الموقف السوري أن إحدى دلائل عدم الرضا السوري حيال الحكومة و «ممالأتها» لدول الغرب وتهاونها مع «قوى 14 آذار»، لا سيما «تيار المستقبل»، إضافة الى الرسائل التي تلقاها ميقاتي، الانتقادات التي أخذ رئيس البرلمان نبيه بري يوجهها إليها بعدم الإنتاجية وبطئها كالسلحفاة، وقوله -بحجة تأخرها في إنجاز الملف النفطي المتعلق بتشكيل الهيئة الناظمة لقطاع النفط وتسريع تصحيح ترسيم الحدود البحرية مع قبرص- إنه سيُنزل الحكومة عن ظهره بعد الآن، وهو قول أعقبه بالإعلان عن تحديد جلسة مناقشة عامة لسياسة الحكومة لطرح الأسئلة الموجهة إليها ثم انتقاده الأربعاء الماضي الحكومة لاعتمادها سياسة «اجترار المشاريع» وأخذه عليها «التمسك بأهداب الوسطية»، على رغم دفاعه عن «سياسة النأي بالنفس». ويقول المصدر إنه على رغم أن لبري مطالب في التعيينات وهو حريص على تسريع الخطوات من أجل تلزيم عمليات التنقيب عن النفط في المنطقة الاقتصادية البحرية، فإن انتقاده الوسطية يأتي في سياق التبرم السوري من حيادية الحكومة حيال الأزمة السورية. لكن أوساطاً أخرى أوضحت ل «الحياة»، أن ما تلقاه ميقاتي من رسائل لا يعني أن دمشق بلغت حد العمل على إسقاط الحكومة بل هي تكتفي بالضغط لتؤخذ مطالبها المقابلة للمطالب الغربية في الاعتبار، إذ إن لبنان ما زال متنفساً لها في مواجهة العقوبات المالية والاقتصادية والنفطية. محدودية الضغوط السورية وتقول أوساط متابعة للرسائل السورية الأخيرة إنها قد تنتج تعاوناً بين السلطات اللبنانية ودمشق في بعض المجالات المالية والنفطية (تردد أن استيراد المازوت الى لبنان يفوق حاجة سوقه، بهدف نقل جزء منه الى سورية لسد النقص في حاجاتها) والأمنية، لكن لهذه الرسائل حدوداً، للأسباب الآتية: 1- ان ميقاتي سعى الى توضيح الأمور مع دمشق عبر زيارات شقيقه طه ميقاتي ونجل الأخير عزمي للعاصمة السورية، أو عبر الاتصالات التي يجريانها مع القادة السوريين الذين لن يذهبوا الى حد الضغط باتجاه ترحيل الحكومة الحالية. وهو ما عبر عنه السيد نصرالله بقوله إن الحكومات لا تتغير بسبب فشلها في ملف ما، بل إذا تغيّرت التحالفات، التي مازالت على حالها، بل إن انزعاج بعض حلفاء دمشق قد يكون أدى أيضاً الى استمرار القنوات المفتوحة بين ميقاتي وبين رئيس كتلة «المستقبل» النيابية الرئيس فؤاد السنيورة، والتي تردد أنها تناولت إمكان التمهيد لإجراء الانتخابات النيابية في أيار (مايو) 2013 بحكومة جديدة، حيادية تضم تكنوقراط برئاسة ميقاتي نفسه على ألا يترشح للانتخابات، تماماً كما فعل عام 2005 حين ترأس حكومة الانتخابات مع العزوف عن خوض الانتخابات النيابية، فدمشق وحلفاؤها يصرون على بقاء هذه الحكومة وعلى الحصة الراجحة التي لهم في تركيبتها حتى الانتخابات. 2 - ان أطرافاً عدة في الحكومة لا ترى أن الاندفاعة العسكرية التي قام بها النظام السوري في عدد من المناطق السورية قبل بدء سريان مهلة كوفي أنان المدعومة من القيادة الروسية بشدة الى حد ممارسة ضغوط على دمشق للقبول بها، تعني أن الأمور استتبت لمصلحة النظام بالضرورة، في شكل يسمح له بالعودة الى الاستقواء على الوضع الداخلي اللبناني. وهي تعتبر أن استقبال الأسد شخصيات لبنانية لا وزن لها ليس دليل قوة. وقناعة هذه الأطراف، إضافة الى أن المعارضة لن تتمكن من قبول حل تحت سقف النظام الحالي بعد الدماء التي سالت، هي أن النظام نفسه أخذ قراراً بمنع التظاهرات التي ستخرج بعد انسحاب آلياته الثقيلة من الأماكن المأهولة، وسيستخدم وسائل أخرى منها إخراج تظاهرات مقابلة وترك الميليشيات الموالية له تقمع المتظاهرين، ما سيؤدي الى مفاقمة الوضع مجدداً، فضلاً عن أن اعتقاد أركان النظام بقدرتهم على استخدام أوراق إقليمية ضاغطة ستنعكس سلباً على الموقف الخارجي منه. وعليه، فإن الأوساط المتابعة للضغوط السورية على الحكومة لا تستبعد أن تظهر مؤشراتها خلال المناقشة العامة البرلمانية لسياستها، لكنها تشدد على أن الكثير من الخلافات الداخلية بعيداً من موقف دمشق ستؤثر في سير هذه المناقشات. لا سياسة في موقف الصفدي وفي هذا السياق، تؤكد مصادر سياسية أن الخلاف الذي ظهر الى العلن أخيراً بين وزير المال محمد الصفدي وبين ميقاتي بعيد كل البعد عن مناخ هذه الضغوط على الحكومة وعن حديث تغييرها، بل ان أوساطاً مقربة من الصفدي تشدد على أن «حزب الله» بذل جهوداً مع وزير المال كي لا يذهب بعيداً في موقفه بشكل يؤثر على الحكومة الذي تحرص قيادة الحزب على عدم تهديد استمرارها. وتؤكد هذه المصادر أن كل ما فعله الصفدي هو أنه انتفض لكرامته، بعدما تبلّغ من أقطاب سمّاهم، مثل الرئيس بري ورئيس «جبهة النضال الوطني النيابية» وليد جنبلاط، أن ميقاتي يشيع أن له عمولة على إحدى باخرتي استجرار الكهرباء اللتين كلفت لجنة وزارية بالتفاوض معهما. وتشدد مصادر الصفدي على أنه حين كشف ما تعرض له من اتهامات لم يكن في حسابه ما يقال عن أنه يقدم أوراق اعتماده لرئاسة الحكومة بناء على ما يتردد عن تغيير حكومي، لأنه يدرك تماماً أن لا تغيير حكومياً، ولأنه شعر بأن رئيس الحكومة أخطأ معه عبر التشهير به بقضية مختلفة. وتضيف مصادر الصفدي أن موقفه لا علاقة له بالسياسة، بهذا المعنى، بل بالتجريح الشخصي الذي تعرض له، «ولعل التفسيرات السياسية التي أعطيت لموقفه سببها أنه غير معروف عنه المواجهات العنيفة ولم يتوقعوا أن ينتفض لكرامته». وشددت مصادر الصفدي على أنه سيتابع عمله في الحكومة في شكل عادي، لكن العلاقة الشخصية بينه وبين الرئيس ميقاتي ومع وزير الاقتصاد نقولا نحاس «لن تعود الى سابق عهدها حكماً وهناك شيء ما انكسر مهما كانت الظروف السياسية». وتضيف مصادر الصفدي أن هناك شقاً آخر له علاقة بالموقف السياسي في ما أعلنه الصفدي هو المفاوضات التي خاضها ميقاتي مع «المستقبل» على الانتخابات النيابية في طرابلس وعدم ترشحه مع ترؤسه حكومة حيادية والتي أجراها من دون أي تنسيق معه، في وقت كان يعتبر نفسه شريكاً لرئيس الحكومة وسانده في تبوؤ المسؤولية، فيما تعاطى معه ميقاتي في هذه المسألة على أنه تابع له، «وهذا يتعلق بأصول العلاقة الشخصية والسياسية، وبالتالي هو قرر تفجير الخلاف غير آبه بنتائجه الانتخابية والسياسية ومن دون أي تفكير برئاسة الحكومة».