كأنما لم يكن ينقص الشاعر أحمد فؤاد نجم إلا إشاعة تلفزيونية عن رحيله، حتى تكتمل حكايته معنا، أو حكايتنا معه، فهذا المبدع الثمانيني، الذي يمكنه أن يعابث جمهوره بخفة فتًى في العشرينات، بدا لا يشبه إلا نفسه، عابراً محطات العمر غير آبه، ربما، بكل ما لاقاه فيها من سعادات قصيرة، ومرارات طويلة، منحته بهجات قليلة، ومعاناة مديدة، تناوشته، فتنقّلت به من سجن هذا النظام إلى ذاك، واحداً تلو الآخر، برفقة زميله المغني الشيخ إمام. دائماً لم يكن خبر دخول نجم السجن، أو خروجه منه، إشاعةً. تماماً كما لم يكن خبر قصائده البارعة، وأمسياته السرّية، وزيجاته المتكررة، وطلاقاته المتتالية، إشاعةً، أبداً. كانت أخباراً حقيقية، يتناقلها طلاب الجامعات في الستينات والسبعينات، كما يتناقلون القصائد على هيئة أغانٍ، والبذاءات على هيئة نكات! ليس من الصعب القول إن نجم عاش حياته المديدة موضوع خبر! لم يكن أحمد فؤاد نجم في حاجة لإشاعة في حياته، أبداً. بل، من دون شك، هو إحدى الحالات الإبداعية النادرة، في عالمنا العربي، ممن تجرأوا على الاعتراف بموبقاتهم التي مارسوها طيلة حياتهم. لم يخجل من قول ذلك، ولا قام بمواراة اللفظ. فعل الشاعر ذلك على شاشة التلفزيون، كأنما هو يتحدّث لزميله «على قهوة»! كان يعلم أنه يبوح بسرّ ل «صديق» لن يتردّد في بثّه لملايين الآذان والعيون، ولن يكفّ عن ترداد ما قاله بين وقت وآخر. ومع ذلك لم يترك للتكهّن محلاً، ولا للإشاعة دوراً. أحمد فؤاد نجم هو فضيحة نفسه، مكشوفاً إلى حدّ العريّ، لا سيما في إطلالاته التلفزيونية حيث عرف دائماً طيف يستغل تلك الإطلالات بحذق. لم يشأ أن يترك المهمة للأعداء، ولا الوشاة، ولا المخبرين، ولا للأنظمة التي طالما تضايقت من وجوده؛ الأنظمة ذاتها التي تنفسّت الصعداء عندما رحل الشيخ إمام مبكراً، وبقيت تُصعّد في أنفاسها وزفراتها، وهي ترى العمر يمتدّ بهذا الشاعر «الضليل»، ولا تقدر السنوات، ولا العمر المتقدم، ولا الجسد المتهالك، على إسكاته، والحدّ من قدرته الفذة على كتابة الشعر، أو ممارسة النقد على هيئة التقريع. وما صار ملفتاً في زمن البث الفضائي العربي، على أوسع مدياته، هو أن الشاعر الذي ألفناه عبر الصوت، بما فيه الصوت المخنوق، أو المتكسّر، من خلال «أشرطة الكاسيت» التي كان يتمّ تمريرها بحذر، من حقيبة طالب جامعي إلى آخر. هذا الشاعر ذاته، سرعان ما صار صديق شاشة التلفزيون، مُقدِّماً واحداً من البرامج التي لا تُنسى، لم يكفّ فيها الشاعر عن الجلوس «على القهوة»، وممارسة كل ما بدا له، بما فيها الثرثرة والنميمة، التي معه فقط، تصل إلى مستوى إبداعي. لا يحتاج شاعر من طراز أحمد فؤاد نجم لإشاعة تُخبرنا أنه رحل. تماماً كما لم يكن في حاجة لصناعة فيلم يقارب حياته. مع مثل هذا الشاعر الظاهرة، نتوهّم أنه سيرمي لنا تلويحة وداع، قبل أن يمضي. سيصنع خبره بنفسه، قصيدةً أو شطر بيت. لم يترك نجم مستوراً لتقوله إشاعة.