عند ملتقى «جنوب غرب طروادة وجنوب شرق قرطاجة» (ولكلّ زمن طروادته وقرطاجه) تقع بلاد تصفها إحدى شخصيّات رواية ابراهيم الكُوني قائلة: «لا وجود لصفاء مثل صفاء ليبيا! لا وجود لسماء كسماء ليبيا! لا وجود لوطن في الدنيا كوطن ليبيا...» (ص600). هي الوطن الوحيد باعتراف أعدائه الذي يسلب من مريده روح الوطن الأصيل (ص259)، والذي يقول الطامعون به: «سوف يعضّ بنان الندم كلّ من لم يهرع لنيل نصيب من الأرض الليبيّة السخيّة، في موسم توزيع الأراضي» (463). هي الوطن الذي يروي الروائيّ الليبيّ ابراهيم الكوني من مكان إقامته في سويسرا، حكاية الهزيمة المدويّة التي ألحقها ببحريّة الولايات المتّحدة الأميركيّة عام 1804، وجعلت لاسم طرابلس (الغرب) مكاناً إلى اليوم في البيت الثاني من نشيد المارينز: «من قاعات مونيتزوما/ إلى شواطئ طرابلس/ نخوض حروب بلادنا/ في الأرض والبحر». وبذلك تكون الرواية مغرية لمن يريد أن يفهم رغبة أميركا الدائمة في الانتقام من تلك البلاد. لغة الصحراء في الرواية الصادرة حديثاً عن المؤسّسة العربيّة بعد صدورها الأول عن مجلة «دبي الثقافية»، ليست المعركة هي التي تغري بتصفّح كتاب من 631 صفحة، فهي معروفة يسهل إيجادها عبر المواقع الإلكترونيّة. إنّما في الرواية ما هو أبعد من ذلك: فيها لغة مميّزة تشبه الصحراء التي نمت فيها، بجمالها الوحشيّ القاسي الذي لا يُسلّم زمام أمره إلّا لمن امتلك الجرأة والرغبة، ولا يستسلم إلّا لمن خبر حركة الرياح والنجوم، لذلك لا تخلو صفحة من الكتاب من مفردات نادرة الاستعمال، وتراكيب دقيقة، وصور شعريّة لا يحسب القارئ أنّها ستجد مكاناً في خضمّ المعارك وحشد الجيوش. وفي الرواية كذلك معرفة بخفايا النفس البشريّة التي تشبه البحار، بغموض قيعانها وثرائها، وهدوء سطحها ومفاجآت تحرّكاتها، حتّى ليمكن القول إنّ تحليل هذه النفس هو ما كتبت الرواية لأجله، لولا أنّ «ليبيا» تفرض نفسها وطناً لا يحسن أهله إدارة شؤونه، ومطمعاً لجيوش لا تعرف كيف تروّض وحشيّة أرضها وطباع ناسها. عندما حقّقت الولايات المتّحدة استقلالها كانت عاجزة عن فرض هيبتها في البحار، فاضطرّت لتوقيع معاهدة (عام 1795) مع السلطنة العثمانيّة لمنع التعرّض لسفنها في مقابل مبلغ كبير من المال. وحين تأخّرت عن الدفع، استغلّ البريطانيّون الأمر وأوغروا صدر باشا ليبيا «يوسف قره مانلي» ليعيد النظر في أمر المعاهدة، وكانت أوضاع ليبيا الداخليّة متقلقلة بسبب الصراع على السلطة داخل الأسرة القرمنلية، وسوء الإدارة الذي أوقع طرابلس في عجز ماديّ. فأعلن يوسف الحرب على الولايات المتّحدة (1801- 1805)، في خطوة لا مثيل لها حتّى اليوم، استطاع الباشا خلالها أن يستولي على الفرقاطة «فيلادلفيا» ذات الأربعة والأربعين مدفعاً وأن يأسر طاقمها الكبير (308 بحّارة). وحين عجزت الإدارة الأميركيّة (وكان ذلك عهد الرئيس جفرسون) عن استرداد السفينة أمرت بإحراقها. في موازاة ذلك، كانت الولايات المتّحدة تعمل على الإطاحة بيوسف، عبر استمالة أخيه أحمد الذي أُقصي عن العرش فلجأ إلى مصر. ومن هناك، انطلقت حملة عسكريّة أميركيّة بقيادة «وليم إيتون» في اتّجاه «درنة» التي تبعد عن طرابلس نحو ألف كيلومتر، فاحتلّتها (يحكى عن فيلم أميركيّ بدئ العمل فيه ويروي مغامرة إيتون في الصحراء الليبيّة). عند ذلك تدخّلت السلطنة العثمانيّة وحاصرت الشواطئ الليبيّة، إلى أن وافقت الولايات المتّحدة على توقيع اتفاقية لإنهاء الحرب، ودفع غرامة ماليّة بقيمة ثلاثة ملايين دولار ذهباً، فضلاً عن ضريبة سنويّة. لكنّ حكم سلالة «القره مانلي» كان على وشك الانتهاء مع تفشّي الفساد فتنازل يوسف لابنه عليّ عن السلطة، إلى أن ألغى السلطان العثمانيّ حكم هذه الأسرة نحو عام 1832. الحروب مناسبة لرصد تصرّفات الحكّام، وتحليل ميول المستفيدين، فضلاً عن ارتباط الخاصّ بالعامّ، وقد تقصّد «الكوني» أن يصوّر احتكاك شعوب من مختلف الجنسيّات والحضارات (بمن فيها الهنود الحمر) في لحظة مصيريّة بين زوال عالم قديم ونشوء آخر جديد. ويمكننا التوقّف عند عناوين لافتة: الحبّ غائب عن البلاط، لأنّ ما يهزُم هو العشق لا غياب العشق (51)، ولأنّ العجز عن الحبّ هو الثمن الذي يدفعه الحكّام مقابل العرش (527). وفي عالم الحريم نتعرّف على دور النساء في السلطة (559)، ما يذكّرنا بزوجات الحكّام الذين خلعتهم ثورات «الربيع العربيّ». ونساء البلاط أنواع: الأمّ الرؤوم، والزوجة التي ترى أنّ ضرّة المرأة الحقيقيّة هي الحرب (439)، والساحرة القبيحة الشريرة، والجارية الجميلة، والأسيرة المعشوقة؛ وهي عموماً قرينة المرآة (ص29)، غير أنّها لا تعود تبالي بحسنها متى رأت نفسها في عداد الأموات (324). أمّا الأبناء فهم أسوأ لعنة يبتلى بها الآباء (34) بل هم سمّ كلّ الآباء (529)، وكلّ من ارتكب خطيئة المجيء بالذريّة إلى الدنيا رهينة (156)، إذ يستطيع الابن أن يطعن الأب حتّى الموت ولكن هيهات أن يستطيع الأب طعن الابن (530). عالم السلطة وفي عالم السلطة يكون للحياة معنى آخر حين يكون من الأيسر أن تميت لا أن تحيي (181)، فتصير الأنفاس أنفس ما في الوجود (38) لأنّ الموت ليس استثناء، ولكن الحياة التي هي تحدّ يوميّ للقدر (414) هي الاستثناء (39). وفي خضّم هذا الفساد، يأتي الخلاص من الطبيعة: ف «اليابسة جسد البحر، والبحر لليابسة روح» (69)، و «كلّ ما هو تزوير للطبيعة خطيئة» (77). ولأنّ الصحراء شيخوخة هذه الطبيعة (267)، يستغرب الراوي كيف يجادل المرء حول المال في حضرة الماء (420). ويتابع الروائيّ تأمّله في الحياة والإنسان، واضعاً على لسان شخصيّاته مفهومه للطبيعة البشريّة القائمة على نكران الجميل (16 و17)، والراغبة في النكاية والانتقام وإن كانت الحكمة تحذّر من هاتين الشهوتين الدالّتين على فساد البشر(180،221، 393، 503، 511، 575)، فالإنسان مستودع حقيقيّ مظلم تقبع فيه الأشباح (290)، يعشق الأشياء ولو فيها هلاكه (312 و 550)، ويختبئ خلف قناع لا يسقطه سوى البلايا (489) التي حين يألفها يستهتر بالحياة (204). أمّا عن مفهوم السلطة، فترى الرواية أن لا حكم بمعزل عن الإجرام (24) فذرّة واحدة من نبل كفيلة بأن تطيح أعظم عرش (156)، فلا وجود للنزاهة عند الملوك (613)، الذين يطلقون ألف وعد، ولا يفون بواحد، لا لأنّهم غير ملزمين أخلاقيّاً بتنفيذ وعودهم ولكن لأن لا أحد يجرؤ على تذكيرهم بها (24)، وبالتالي لا شيء يمنع أن يستخدم الحكّام «مارد الوعود» (572) في لعبة الخداع. ومن أجل لحظة من السلطة التي لا يرتضيها إلّا من أوتي موهبة التهريج (382) يحتمل الإنسان الذلّ (193)، ولكنّ الهزيمة وحدها تستطيع أن توقظ في قلب صاحب السلطان الضمير (307). أمّا أكثر من يستهين بالحاكم فأهل بيته لأنّهم يرونه على حقيقته (424). ومع ذلك فمن دروس الحُكم أنّ تراجعَ الحكّام عن أمر أو قول انتحارٌ (561)، وأنّ السيف لم يوجد ليسقط رؤوس الرعية ولكن لإرهاب أبنائها (506). أمّا في حال الهزيمة والنفي فعلى الحاكم المخلوع اليقظة لا الطمأنينة (152). المُريد ولا يصلح كلّ رجل ليكون حاكماً ف «مريد القداسة كمريد الحقيقة لا يصلح محارباً» (19)، وأصلح إنسان لممارسة مهنة الحرب هو مريد السلطة ثمّ مريد المال ثمّ مريد المرأة (19)، شرط أن يعرف أنّه «يندر أن يُكتب النصر لإنسان مرّتين» (53)، أمّا إذا حصل للنصر أن تكرّر ففي ذلك موت الضمير (106). ولا ينتصر محارب ما لم ينشر في صفوف العدوّ الذعر عبر ارتكاب المجازر في حقّ الأبرياء (391)، لأنّ الشفقة مقبرة الرجولة (327). ولكنّ للبطولة الحقّة شروطاً ما دامت الطبيعة نفسها تخضع للشجعان (289): فقد تكون في التنازل عن البطولة (393) أو في حقن الدماء (506)، أو قول الحقيقة (481)، أمّا الأمل في النجاة فأفيونها (293) في حين أنّ العار في اليأس لا في الاستسلام (90). ولا يكتمل البلاط من دون الشعر والدين، علماً أنّ زمن الحروب لا يصلح لتربية الشعراء (43)، وقول الشعر، الذي لا يكون حقيقيّاً إن لم يكن صوت الضمير (503)، لا يعصم من بطش الطغاة (61). أمّا الدين فحجّة الحروب لا سببها (349)، والقوانين الدنيويّة ظلّ باهت للقوانين الأخلاقيّة، لأنّها دليل على غياب النواميس الإلهيّة (93)، فالشرائع تنعت الحاكم خليفة للربّ على الأرض حتّى ولو كان طاغية (390)، يتنكّر لدينه حين يلجأ الى الشعوذة والغدر، ويدّعي الدفاع عنه حين يخشى على مصالحه. نجحت الرواية في تصوير المعارك البحريّة والبريّة بنفَس ملحميّ بديع، وهلّلت للحريّة التي هي عافية الروح كما أنّ العافية حريّة الجسد (281)، فالحياة الحقيقيّة ليست سوى لحظة حريّة (355)، ولحظة الحريّة ما هي إلّا لحظة شجاعة (435). أمّا الإحسان فيميتها (182)، في حين أنّ زوال الألقاب دليل على وجودها (568). إنّما متى تحوّلت الحريّة دولة استسلمت ل «غانية» اسمها سياسة (137)، تخضع بدورها لسخرية العسكر.