جمعت الروائية السورية سمر يزبك ما دأبت على كتابته في الأشهر الأخيرة من «يوميات» في كتاب سمّته «تقاطع نيران» (دار الآداب 2012). لكنّ قراءة هذه «اليوميات» ملتئمة في كتاب، مع ما أضافت إليها من نصوص، تختلف عن قراءتها منشورة في الصحافة. فانتقال «اليوميات» هذه من صفحات الصحف الى صفحات الكتاب أكسبها طابعاً سردياً وحرّرها من التوثيق «الكرونولوجي» المباشر ومفهوم المتابعة المتوالية لأحداث الثورة التي تشهدها سورية اليوم. يشعر القارئ فعلاً أنّه أمام كتاب مصنوع ومتكامل يجمع بين فصوله أو مشهدياته خيطٌ سرديّ متين يتجلّى عبر الدور الذي تتمثله الكاتبة التي تروي من خلال الأنا. ولئن حافظت سمر يزبك على نظام «اليوميات» مؤرخة الفصول نفسها، فهي تخطتها جاعلة من «اليومية» مشهداً مفتوحاً على السرد والتأمل وكاسرة معايير الزمن والتدوين. وهي لم تنسَ لحظة أنها روائية تكتب «يوميات» مستخدمة «عين» الصحافية أو «المؤرخة»، حتى وإن شعرت في أحيان أنها عاجزة عن فعل الكتابة أمام اللحظة المأسوية الهائلة، التي عاشتها، سواء في الشارع وسط التظاهرات، أم في جولتها على المدن أو أمام الشاشات الفضائية. والجميل هو تركيزها على الصراع الذي عاشته بينها وبين نفسها، بين الروائية التي فيها والمرأة التي هي ... إنها «المرأة التي صارت أخرى»، كما تقول، المرأة التي «تراقب الروائية»، المرأة التي «هي - أنا»، المنفصلة عن نفسها، التي تقف أمام نفسها وتنظر اليها. هذا الصراع بين سمر المرأة وسمر الروائية أو الكاتبة، أضفى على «اليوميات» ملامح التأمّل الناجم عن حال الانفصام الذي تعيشه إزاء رهبة اللحظة التاريخية التي تظلّ الكتابة عاجزة أمامها. «لم أستطع أن أتحوّل إلى شخصية من ورق»، تقول، وتضيف: «المرأة الورقية التي في أصابعي قالت لي: «الدماء أو الذل». إلا أن الصراع الذي لم ينته بين المرأة والكاتبة ساوى بينهما، في الألم والمعاناة، وفي الخيبة والخوف... «لا أحبّ الحديث عن البطولات، تقول في الختام، البطولة وهْم، نعم كنت مذعورة...». لا تكتب سمر يزبك يومياتها هذه لتواجه «الخوف والذعر» فقط وإنما لتراود الأمل أيضاً، كما تعبّر. لكنها على يقين تام أنّ ما تكتبه حقيقي وواقعي وليس من صنع المخيّلة. الكتابة هنا مواجهة سافرة للموت أو بالأحرى للقتل في أبشع أنواعه، قتلاً بالرصاص، سحقاً تحت آلة التعذيب، دوساً بالأقدام... وفي قلب «كرنفالات الرعب» وأعراس الجنون توقن الكاتبة أنها لم تعد تخاف الموت بعدما أضحت تتنفسه كالهواء، بعدما أضحى هو الهواء الذي تتنفسه. إنه الموت الذي في كل الجهات. الموت الذي تنظر إليه شزراً في عين قناص، الموت في الشوارع تحت ضربات «الشبيحة»، في البيوت تحت القصف، في الزنزانات، الموت انتحاراً... في إحدى اللقطات تتحدّث عن القناص: «أمشي، أفكر أين يمكن أن يكون القناص الآن. أفكر أنني سأكتب رواية عن قناص يراقب امرأة تمشي بهدوء في شارع». في قلب الجحيم كتبت سمر يزبك أولى يومياتها في 25/3/2011 وحملت اليومية الأخيرة تاريخ 9/7/2011. إنها أربعة أشهر عاشتها الكاتبة في حال من القلق والذعر، شاركت أحياناً في التظاهرات وتعرّضت للضرب مثل الكثيرات والكثيرين، وشاركت أيضاً في اللقاءات السرّية التي كانت تعقدها اللجان الثورية وساهمت في حركة الإغاثة... لكنّ أهمّ ما قامت به خلال هذه الأشهر الأربعة هو تدوينها يوميات الثورة السورية، سواء عبر عيشها إياها أم عبر الشهادات الحية التي سعت الى جمعها من شفاه المنتفضين والثائرين الذين عاشوا اللحظات عن كثب، ومنهم صحافيون وأطباء وكتّاب وفنانون وفتيان... وبدت هذه الشهادات أشبه بالوثائق التي لا بدّ من العودة اليها لتأريخ أيام الثورة. شهادات حقيقية، أليمة، طالعة من قلب «الجحيم»، سجّلتها الذاكرة والعيون والحواس كلّها. شهادات من قلب «الميدان»، بدا أصحابها كأنهم يملكون كاميرات يلتقطون عبرها تفاصيل التفاصيل. وبعضهم كان جريئاً في فضح الأساليب الخبيثة والوحشية التي تستخدمها السلطة. وشاء جميع هؤلاء أن يظلّوا غفلاً أو مجهولين وقد اختصرت الكاتبة أسماءهم بأحرف مزوّرة، حفاظاً عليهم من بطش النظام. وقد توزّع هؤلاء الشهود خريطة الثورة السورية، من دمشق الى درعا فإلى حمص وبابا عمرو وبانياس والقامشلي وسواها... ولعلّ هذه «اليوميات» تمثل أصلاً خريطة «جغرافية» للثورة الممتدّة وسع المدن والمناطق والبلدات والقرى. بعض هذه الأماكن زارتها الكاتبة مستقلّة سيارة أجرة، فعبرت الحواجز متنكرة، وشاهدت بعينيها ما يحصل وخافت... وبعضها رافقت مآسيها الرهيبة على الشاشات. ولا تحصى الأماكن التي وردت في «اليوميات»، وبعضها يجهله القارئ غير السوري، ولولا الثورة لما سمع به. إلا أنّ سمر يزبك لم تكتب فقط ما شاهدت وشهدت عليه وما شاهده وشهد عليه الآخرون الذين سردوا لها شهاداتهم، بل إنها عاشت أشدّ اللحظات سوداوية وذعراً وألماً خلال «حفلات» التحقيق التي أجرتها أجهزة الأمن معها، بعدما اقتادتها الى عالمها السفليّ، القاتم والموبوء. فبعدما أشاعت الأجهزة الرسمية عنها أخباراً واتهامات ملفّقة وخطرة (منها تهمة العمالة والخيانة...)، عمدت الى استدعائها مرات للتحقيق معها، وكان «ضابط الأمن الكبير» هو رأس الحربة. في المرّة الأولى اقتادها رجلان في سيّارة بيضاء بعدما عصبا عينيها... ثم وجدت نفسها في مكتب الضابط الكبير، الذي ينظر إليها بازدراء وقرف وكأنها «حشرة مفعوسة»، ولم يلبث أن تقدّم منها وصفعها بقوة ما جعلها تقع أرضاً ثم بصق عليها قائلاً: «يا جربانة». تصف الكاتبة هذه اللحظة قائلة: «صرخ بي لأقف، لكنني لم أستطع، فقدت توازني. يا للسخرية، صفعة واحدة تجعلني أقع أرضاً...». كانت الكاتبة تخفي تحت صدريّتها سكيناً اعتادت على إخفائها في حقيبتها، وكانت على استعداد لغرس السكين في قلبها، إذا حاول الضابط أو سواه الاعتداء عليها... وبعد دقائق من المواجهة والصراخ والتهديد قال لها: «أنتِ عار على العلويين». ثم طلب منها أن تتكلم أمام كاميرا الفضائية السورية وتصرّح بما سيفرضه عليها: «صرختُ قبل أن يكمل: لن أفعل، حتى لو قتلتني بيديك». وعندما صمتت، سألها عن مقالاتها المعادية للنظام وعن الفايسبوك و «الحركات» والتظاهرات... وعندما لم يعجبه جوابها الجريء، قال لها «طز». لم ينته التحقيق هنا. جاء رجلان ضخمان ودفعاها، معصوبة العينين، الى الداخل. كانت هي تعلم أنها سترمى في زنزانة مثلها مثل الأسرى الآخرين. ثم عندما أسقطا العصابة عن عينيها وجدت أنهما يسوقانها داخل ممرّ طويل تتوزّع الزنازين على طرفيه: «ممرّ منفصل عن الوجود، أنظر خلفي فلا أرى شيئاً، أمامي، السواد المطلق. ممرّ بلا نهاية ولا بداية. معلّق في العدم، وأنا في الوسط ومن حولي أبواب مغلقة». لكنها سرعان ما أبصرت ثلاثة أجساد معلقة في مكان ما، شبه عارية... ثم تدفّقت رائحة دماء وبول وغائط. سمعت الكاتبة أيضاً صراخاً وعويلاً ناجمين عن التعذيب... أما الرجلان فكانا كلّما فتحا زنزانة يدفعان بها الى الداخل ثم يسحبانها... ومن زنزانة الى أخرى اكتشفت «الجحيم»، كما تقول. «أجساد مرمية وراء أجساد متكوّمة... كأنّ البشر مجرّد قطع من اللحم، معروضة لتبيان أفضل ما يمكن عرضه من فنون القتل والتعذيب...». وعلى رغم انهيارها، جسدياً ومعنوياً، أصرّت على مواجهة «الضابط» حين اتهمها بالخيانة قائلة له: أنت الخائن. لم يتمالك عن صفعها بقوّة فسقطت أرضاً أيضاً وارتطم فمها بالأرض ومنها سال دم ساخن. وقبل أن يخرجوها قال لها: «والله لبزقك الدم». «مذلون ومهانون» هذه أولى رحلاتها الى «جحيم» أجهزة الأمن الرسمي. وهي ستتكرّر مرّات ثلاثاً، وخلالها كلّها ذاقت ألواناً من الإذلال والإهانة. وفي إحدى «زيارات الجحيم» هذه، تبدو زيارة رجال الأمن لها شبيهة بالزيارة التي قام بها رجال الأمن ل»جوزف ك» في رواية «المحاكمة» لفرانز كافكا، فهم بدوا غاية في التهذيب عندما طرقوا بابها ليبلغوها أنّها مطلوبة الى جهاز الأمن، لكنّ أحدهم لم يتوان عن إظهار مسدسه في طريقة لطيفة بغية إخافتها. ولعل الإلماحات « الى بعض الروايات او الأعمال الفنية لم تغب عن «اليوميات»، فالكاتبة تذكر على سبيل المثل ساراماغو (رواية» العمى») ودوستويفسكي، مشبهة فقراء الثورة السورية بشخصيات رواية «مذلون ومهانون»، وتستعير من سارتر جملته الشهيرة ولو مقلوبة « الآخرون هم الجحيم «، وتتذكر أيضاً فيلم برهان علوية «كفرقاسم»...هكذا لا يغيب الهاجس الروائي عن» يوميات « سمر يزبك التي تصرّعلى النظر الى المأساة السورية كما لو انها «فاجعة تشبه الروايات» كما تقول. ولئن رفضت كل ملامح البطولة بصفتها راويةً لهذه «اليوميات» فهي لم تستطع أن تُسقط عن نفسها صفة البطلة السلبية أو الوجودية التي تعاني من كونها «الخاسرة الكبرى». تقول سمر: «أعود من فراغي، من قلبي المجوّف...لا أقدر على التنفس»، أو: «كنت مشوّشة، جافة كفزّاعة»... وفي لحظة من اليأس الشديد تعلن حال العجز الكامل قائلة: «لا أستطيع أن أكتب. لاأستطيع أن أشتغل على الأرض مع الشباب. لا أستطيع أن أفعل شيئاً. أستطيع فقط أن أتألم.» وقد يكون الحافز على هذا اليأس هو تخطي «الحدث» الرهيب فعلَ الكتابة، كما تقول. وعلى رغم هذا اليأس تمعن في تدوين يومياتها: «إني اكتشف أن هذه اليوميات تعينني على العيش، هي عكازي في هذه الأيام ويجب الاستمرار في كتابتها». وفي هذه المعاندة على الاستمرار في التدوين تكتب سمر صفحات روائية بديعة عن أحداث ووقائع وشخصيات، ومنها مثلاً قصة الجنديين اللذين انتحرا داخل مخبئهما بعنف هرباً من جنون القتل وانسحاباً من هذا الجحيم المستعر. ومنها أيضاً قصة المغني ابراهيم القاشوش الذي اقتلع رجال النظام حنجرته، وقصة الضابط الذي اطلق النار على جسده ليتمكن من الفرار من الخدمة الدامية، أو قصة الشاب الذي يُجلد ويُعّذب على مسمع حبيبته لتنصت اليه يبكي مثل امرأة... وكذلك قصص الشبيحة المرعبين والقتلة الذين «تندس في نومهم»، والمواطنين الذين حوّلهم النظام الى لاجئين تحت الخيم أو في العراء. بدت سمر يزبك جريئة جداً في فضح أسرار النظام الجائر وأفعاله وأساليبه الجهنمية، ولم تدع جريمة أو مجزرة أو خديعة أو فجيعة إلا تناولتها وألقت عليها ضوءاً. وكان لا بدّ من أن يحفل كتابها بالكثير من التفاصيل وتفاصيل التفاصيل. وهذا الكتاب سيكون إحدى الوثائق الفريدة والمهمة التي تدين النظام الوحشي وتنتصر ل «ثورة الفقراء والمهمشين» التي التحقت الكاتبة بها متخلّية عن طائفتها وعائلتها الكبيرة وعن بيتها، قبل أن تختار المنفى الفرنسي لتحيا هناك حياة شظف وفقر. فهي لم يكن أمامها الا ان تغادر مرغمة بعدما أصبحت حياتها مهددة فعلاً ودمها مهدوراً على أيدي النظام والشبيحة والطائفة. إنها الكاتبة التي عاشت وتعيش حقاً وسط «تقاطع نيران»، نيران يطلقها الأعداء كما الأهل كما الأصدقاء الذين كانوا أصدقاء.