في كيمياء الطوائف كثير من الهواء الفاسد، وعلاقة السنّة بالمسيحيّين، والمسيحيّين بالسنّة، ربّما كانت أكثر العلاقات امتلاء بذاك الهواء. والمسيحيّون، هنا، هم أساساً الشرقيّون أو الروم ممّن هم أكثريّة نصارى الشرق. وك «ملكيّين»، لا يزال هؤلاء، في ذاكرة جمعيّة ما، يحنّون إلى مُلك أحالته القرون قاعاً صفصفاً. لكنّ المعنى الأوسع للمسيحيّين يشمل، أقلّه في لبنان، غير الشرقيّين بمن فيهم قادة زمنيّون كميشال عون، وروحيّون كالبطريرك الراعي. ذاك أنّ الموارنة هم الذين يتزعّمون تاريخيّاً التعبير اللبنانيّ عن الحسّ الأقليّ. إلاّ أنّهم وقد أسّسوا مساجلتهم اللبنانيّة ورادوها، يتنازلون للروم حين تغدو المساجلة عربيّة عابرة للحدود. والأخيرون ربّما قصدوا بيزنطة كلّما قالوا «سائر المشرق»، هي التي صدّعها قادة «سنّة» أوّلهم خالد بن الوليد في القرن السابع وليس آخرهم محمّد الفاتح في القرن الخامس عشر. وكلّ من يزور اسطنبول، وكانت ذات يوم القسطنطينيّة، يجهد ويكدّ قبل أن يعثر على بطريركيّة تكاد تكون مهجورة، بطريركيّةٍ سبق أن أسكنت بعض أقوى رجالات العالم. والمسيحيّة الشرقيّة لم تغفر ولم تسامح، فردّت، وما زالت تردّ، على جبهات عدّة. فهي استحوذت مبكراً على العروبة ظانّةً أنّها بالأصول تقاوم الفروع، وبأجداد الجاهليّة تقوى على آباء الإسلام. لكنّ العروبة تلك اضطرّت، كي تصير سلطة، أن تستعين بأقوياء لا يكونونهم المسيحيّون. هكذا آلت ثمارها إلى صدّام حسين وحافظ الأسد، وليس إلى ميشيل عفلق الذي هرب من الثاني والتجأ إلى الأوّل، ثمّ تحوّل، في عهدته إلى الإسلام. وفي هذه الغضون جعل الدخول المصريّ إلى العروبة المنافسة المشرقيّة كلّها سخيفة وسقيمة. فعشرات ملايين السنّة الذين أحاطوا بالأزهر وخرج من صفوفهم قادة كمصطفى كامل ومحمّد فريد وحسن البنّا، قلبوا التوازن على نحو لا يقبل التعديل. هكذا لم تعد اللعبة ملك اللاعبين الصغار في «بلاد الشام»، خصوصاً أنّ سوريّة كلّها أهديت، في 1958، لجمال عبدالناصر. ومع أنطون سعادة، قبل عفلق، كان الردّ بأصول أبكر عهداً، أصولٍ تقفز فوق معركة اليرموك برمّتها كما لو أنّها غزوة عابرة ورسم على الرمل، لتتّصل بأشور وبابل. لكنّ الضعف في الواقع جاء يعكس الإبحار في التاريخ الأركيولوجيّ، منبّهاً إلى سوء نيّة تستبطنه. هكذا انتهى الأمر اغتيالات وانقلابات عسكريّة فاشلة، قبل أن يحلّ بشّار الأسد حيث طمح أنطون سعادة أن يحلّ. كذلك ردّت المسيحيّة الشرقيّة بالتقدّم واليسار، من شبلي الشميّل وفرح أنطون، إلى الانتساب الواسع للأحزاب الشيوعيّة ومتفرّعاتها. وهؤلاء، على العموم، طوّروا لغة مزدوجة، فكانوا كلّما قالوا «الإقطاع» و «السلاطين» و «التخلّف» قصدوا النظام المنسوب إلى نُخب سنيّة تعاقبت على الحكم والسلطان. وكمثل العروبيّين الذين زايدوا بالعروبة، زايد هؤلاء بأنّهم الأكثر جذريّة في مناهضة استعمار يرزح على صدور المسلمين. هكذا لاح نوري السعيد والطبقة التي هو منها امتداداً «رجعيّاً» لاستعمار خفيت استعماريّته عن سذاجة المسلمين، تاركةً ل «عبء الرجل المسيحيّ» التنبيه إليها. ومثل هذه المزايدة في اعتناق مصالح الأكثريّة بدت مثيرة لريبة تلك الأكثريّة، هي المحافظة التي تحاذر الانشقاق، خصوصاً إذا كان من «يبثّ» ه فيها طرفاً ليس منها. وبعد كلّ حساب، كان ينبغي على الذميّ أن يلزم حدّه فلا يتعدّاه إلى من وضعوه في ذمّتهم، داسّاً أنفه في علاقات واحدهم بالآخر! لكنْ قبل الردّ باليسار كان الردّ باليمين. فمنذ الإصلاحات العثمانيّة وتنظيماتها، احتلّ المسيحيّون الشرقيّون، ومعهم اليهود، مواقع في التعليم الحديث والتجارة الوسيطة تحاول المعاصرة التي تحول دونها أبرشيّة وتقوقع سنّيّان. وهذا أيضاً لم يكن موضع ترحيب، فاشتعلت ضدّه الشكوك التي طالت المصدر الاستعماريّ ذاته، وسريعاً ما مُدّ تعبير «عميل» من التجارة إلى السياسة، ومعه قاموس عن الصفقات والسمسرات والتسويات. ودائماً، وفي الردود جميعاً، حضرت العلمانيّة كعلاج شافٍ من أمراض لا يراها المريض نفسه، أو أنّه يراها صحّة زائدة فيما - وعلى طريقة المتنبّي - «شحمها ورم» فحسب. وكان لا بدّ من مقايضات وإغراءات بعضها حمل طابع التوريط، أو فُهم كذلك: فقد صارت شرقيّة المسيحيّين المناوئة للغرب افتراضاً، والمناهضة فعلاً لإصلاحات الغرب الدينيّة، بمثابة عرض سخيّ مُقدّم للمسلمين. وكانت مدينة القدس السلعة الأشدّ تداولاً في الصفقة. أمّا اللاساميّة، التي لم تكن ظاهرةً من ظاهرات التقليد الإسلاميّ، فشكّلت الهديّة المسمومة. هكذا نوشد المسلمون أن اكرهوا إسرائيل، لا لأنّها احتلّت الأرض، بل لأنّ أجدادها صلبوا المسيح الذي يقول المسلمون إنّه لم يُصلَب. لكنّ انفجار الحرب بين الفلسطينيّين والمسيحيّين في لبنان جاء يشي بأنّ مقايضة التقرّب من المسلمين على حساب اليهود لن تؤتي أُكلها. بيد أنّ المنعطفات الكبرى مضت تهزّ المقايضات المزغولة التي تغلّفها لياقات «حوار الأديان» وإنشاء «العيش المشترك». هكذا حين بدا رفيق الحريري وسيطاً مع الغرب يتجاوز الوسطاء المسيحيّين نفوذاً، وحين تدخّل الغرب في البوسنة وكوسوفو إلى جانب المسلمين، ضدّ الصرب «الشرقيّين» جدّاً، جُنّ الجنون فلُعن العالم والأقدار التي صنعتها الشياطين. وبالفعل فبعد الحريري صار المسيحيّ «اليساريّ» يصيب عصفورين حين يهجو الرأسماليّة، وبعد البلقان تأكّد المسيحيّ «اليمينيّ» من براءته المطلقة لأنّ الواقع أدنى من طهارته، لا يأتيه إلاّ بالغفلة والتآمر. والآن يتبدّى، في مناخ الثورة السوريّة، أنّ شيئاً آخر بات قيد الاستخدام. فبعد أن استُعملت منتجات الحداثة، القوميّة والاشتراكيّة والرأسماليّة والديموقراطيّة، من دون نفع كبير، وبعد أن استحالت الرشوة بالقدس وفلسطين منظّماتٍ تقاتل المسيحيّين اللبنانيّين، أُقحمت العنصريّة، هذا المنجز السلبيّ للحداثة، وقُرّر أنّ السوريّين وباقي العرب «السنّة» لا يستحقّون أفضل ممّن قُيّض لهم من الحكّام. وكان سبق ذلك تطوير نظريّة عن تحالف الأقليّات في مقابل تلك الأكثريّة. فالشيعة والعلويّون لم يسبق لهم أن نافسوا المسيحيّين من قبل، لا في الزمن الامبراطوريّ ولا بعده. وهم، في هذا المعنى، قابلون للإلحاق حتّى لو امتلكوا الأسلحة والسلطات التي لا يملك المسيحيّون مثلها. فهم، في هذا الحساب، ذوو سلاح مهدّد وسلطات خائفة تقيم شيئاً من الضعف «المسيحيّ» في قوّتهم «المسلمة». أمّا في كراهية السنّة فهؤلاء ربّما أضمروا أكثر ممّا جهر به النصارى. وهذا، على عمومه، مدعاة للحزن والرثاء.