لن يرقد صدام حسين في قبره بسلام إن عرف أن ذكرى الغزو الأميركي للعراق مرّت بلا انتباه عربي يُذكر، باستثناء بعض التفجيرات «الفولكلورية» في البلد، وأن ذكرى سقوط بغداد «أو بالأحرى سقوطه» لن تشهد ذلك التباكي المعتاد على سيادة العراق أو على مصيره. سرق الربيع العربي وارتداداته الأضواء من التاريخ القريب، ولكن قد يجد الصداميون العرب العزاء في تجدد موسمهم مع الشقيق التوأم لحكم «البعث» في سورية، لولا أن التاريخ يعيد نفسه بعد جريان كثير من «الدماء» تحت الجسر، الأمر الذي ينزل به من مستواه التراجيدي السابق إلى نوع من المحاكاة البائسة والمبتذلة في آن. وستكون ذكرى تأسيس «البعث»، في السابع من نيسان (أبريل)، مميزةً هذه السنة بغياب الحزب دستورياً عن الحكم في سورية بعد التعديل الأخير. الأمر الذي وإن بدا شكلياً، وتم بطريقة «بيدي لا بيد عمرو»، يسدل الستار رسمياً على نصف قرن من هيمنة أيديولوجيا «البعث» على جزء حيوي من المنطقة. قد لا يتخلى النظام السوري تماماً عن عادته بالاحتفاء بالذكرى، لكن ذلك أقرب إلى التأبين بعد أن قدّم الحزبَ قرباناً لبقائه في السلطة. وعلى غير ما يشتهي النظام فإن تخلصه من الغلالة الأيديولوجية ل «البعث» لم يكن ذا نفع يُذكر له، لأنه في الواقع تخلى عن الشرعية الثورية للحزب في الوقت الذي أضحى عاجزاً عن الانتقال إلى الشرعية الدستورية، فلم يكن من شأن للدستور الجديد سوى اختزال النظام إلى ما هو عليه حقاً. لكن ذلك لا يعفي الأيديولوجيا البعثية من المساءلة، فنتائجها الكارثية في بلدين عربيين لا تقع قط في استئثار فرد بالسلطة؛ هذه هي النتيجة ليس إلا. لاعتبارات عديدة أخذت تجربة «البعث» في العراق حظاً من الاهتمام لم يُتح لشقيقتها السورية، فبدا لوقت طويل أن الجزء العراقي يحتكر سيئات «البعث»، أو أن النظام السوري أقل بعثية من توأمه! ولا شك في أن النظام السوري استفاد جيداً من السردية التي راحت تُحاك عن «البعث» الصدّامي، بخاصة مع نهاية الثمانينات ومستهل التسعينات، تلك السردية التي جعلت قصف حلبجة بالأسلحة الكيماوية ثم احتلال الكويت جرائمَ دموية لم ولن يفعل مثلها سوى صدام. انتشرت الدراسات التي حاولت سبر أغوار شخصيته وأسباب انحرافه النفسي والسلوكي، بينما كانت الدراسات عن الرئيس السوري آنذاك (حافظ الأسد) أقل بالمقارنة، وبقي معظمها في إطار اللياقة السياسية مع إعجاب واضح أو خفيّ بحنكته. من المعلوم أن بعثَيْ سورية والعراق لم يكونا على وفاق أبداً، وقد تستر كلّ منهما بالدعاوى الأيديولوجية ذاتها في مواجهة الآخر متهماً إياه بالانحراف عن الأصول «النقية» ل «البعث»، ولعلها المفارقة الأولى أن يصل الحزب إلى حكم بلدين متجاورين، ومتشابهين نسبياً من حيث التنوع المجتمعي، فلا يقدّم جناحا الحزب المثال الوحدوي المُدَّعى في رأس أهدافه، بل على العكس يعطي جناحا الحزب مثالاً ناصعاً على الفرقة والتنابذ. خلف صراع الأحقية على المبادئ هذا تطل العقلية البعثية التي لم تكن يوماً إلا عقلية هيمنة وإقصاء؛ حتى في داخل الحزب لم تكن التحولات وليدة حراك سياسي مدني سلمي. فالحزب الذي طرح نفسه منذ البداية بوصفه حزباً انقلابياً بقي أميناً لهذا التصور، ولم يعرف أعضاؤه سبيلاً مختلفاً إن مع رفاقهم أو مع الآخرين. كان لحقبة الحرب الباردة أن أمّنت غطاء سياسياً وفكرياً لنظامَي «البعث»، فشاع على نطاق واسع الاعتقادُ بأن تجربة هذا الحزب تقترب من مثيلاتها الشيوعية، لكن تفحصاً متأنياً لمسار «البعث» بشقّيه يحيلنا بالأحرى على ما يُعرف ب «القومية الاشتراكية» ومثالها الأشهر «النازية». يبدأ الأمر من تصورات «البعث» الأولى عن الماضي الإمبراطوري التليد وضرورة استعادته نقياً من الشوائب، فالكتابة البعثية للتاريخ تتغاضى حتى عن حقيقة النمط الإمبراطوري ككيان سياسي غير متجانس قومياً، وتنظر بريبة شديدة إلى مساهمة الأقوام الأخرى في خلافة لم تكن يوماً عربية بمقدار ما هي إسلامية. ما يثير إعجاب البعثيين حقيقة هو النموذج التوسعي المقترن بالهيمنة المطلقة على الأقوام الأخرى وبتغييب مساهمتها الحضارية، مع إعجاب لا يخفى بالشخصيات التاريخية ذات السطوة الشديدة؛ العربية حصراً. المثل البعثي الأعلى هو ما يمكن ترجمته ب «جرن الانصهار القومي»، وهو مفهوم نازي بمحصلته وإن اعتقد بعضهم بتقدميته في نهاية العصور الوسطى، وطالما استتبع ذلك وجود ديكتاتور منقذ للأمة، رغم أن النتيجة كانت وبالاً في أغلب الحالات. ليست مصادفة أن تتخذ القومية العربية المنحى ذاته بدءاً من تجربة عبد الناصر ذات النزوع إلى التوسع والهيمنة في الخارج والديكتاتورية في الداخل؛ مع «البعث» تجلت التجربة بجوهرها الدموي. فقبل مقتل الآلاف في مدينة حلبجة في العراق كان عشرات الآلاف من السوريين في مدينة حماة قضوا برصاص وقذائف النظام فلم تُتح لها الشهرة العالمية التي اكتسبتها حلبجة، فضلاً عن معسكرات الاعتقال التي طاولت عشرات الألوف في كلا البلدين. بل إن «البعث» العراقي تأخر طويلاً عن توأمه في الامتداد خارج الحدود، فمع حفظ الفوارق التفصيلية كان النظام السوري أحكم قبضته على الجار اللبناني متسللاً عبر غطاء شرعي عربي لم يدم إلا قليلاً. ربما يستسهل بعضهم إلقاء اللوم على التطبيق لا على الأفكار ذاتها، على رغم أن الشموليات بأنواعها كانت دائماً الوعاء الأنسب للتوتاليتارية، على ذلك يكون الصداميون العرب أكثر أمانة لفكرهم من أولئك الذين يخطّئون الواقع كرمى لفكر مجرد لم يتجسد إلا على هذا النحو. الذين تباكوا على ضحايا صدام كانوا قلة بالمقارنة مع مَن تباكوا على مصيره، والذين دانوا غزوه للكويت كانوا أقل عدداً ممن دانوا حرب تحريرها؛ البشرى السارة التي أتى بها الربيع العربي أن القلائل الآن يجرؤون على الدفاع عن النظام السوري، وإذا استثنينا المرتزقة منهم فإن البقية لا تجد مبرراً لدفاعها سوى الأيديولوجيا القومية ذاتها التي لم تعبأ يوماً بقيم الحرية والكرامة الإنسانية. ما سبق يدعو إلى استنتاج أن الأيديولوجيا القومية العربية لم تكن إلا كما رأيناها في سورية والعراق، وأنه لم يكن بامكانها أن تكون إلا كما كانت: ديكتاتورية دموية مقنَّعة ببارانويا جماعية.