إنها قصة حب. رجل وامرأة لم يلتقيا قط. لا تحتسب الصور التي احتوتها مراسلاتهما، ولا تلك الصدفة الوحيدة عندما رفع لها قبعته فيما مرّت بعربتها التي تجرها الأحصنة. لكن علاقتهما استمرت 13 سنة، وتبادلا أكثر من 1200 رسالة. قلق وعتب وغزل وشوق... شأنهما شأن العاشقين في الأرض عبر العصور. يمكن تخيّل حبيبين، اليوم، عبر الإنترنت. بالأمس القريب، ربما أهدى اثنان آخران أغاني على إذاعة ما. والحب في هذه القصة وقع قبل أكثر من قرن ونيف. إلا أن الزمن ليس عنواناً لهذه الحكاية، ولا الحرمان والتوق المؤجل حتى آخر يوم في العمرين... بل الموسيقى. هو بيتر إليتش تشايكوفسكي، الموسيقي الروسي الشهير. وهي نادزيدا فون ميك. يُرويان مجدداً، كما ينبغي، على خلفية باليه بحيرة البجع، السيمفونية الرابعة، «الرومانسيات الست»، «أن تنساني بهذه السرعة»، «آه لو كان في استطاعتك»... ومقطوعات كثيرة عُزفت حيّة كيما تعيد بطليها إلى الحياة، في توليفة لفرقة دار الأوبرا الملكية البريطانية، هي أقرب إلى أداء مسرحي موسيقي راقص بعنوان «الصديق الحبيب» قدّم في مسرح «قصر الإمارات» ضمن مهرجان أبوظبي. صعد الجمهور إلى الخشبة مع المؤدين، بناء على طلب الفرقة، لتكون التجربة مشتركة. مقاطع مختارة من رسائلهما تقرأ. تتخللها الموسيقى وغناء الأوبرا ورقص البجعة البيضاء في عرض مشحون، على رغم بساطته. لكن متى كان العشق بسيطاً أو الفن مسلّماً به؟ «هلا أرسلت صورتك؟» في العام 1876، تعارف بيتر ونادزيدا. كان هو ابن 36 سنة، وهي أرملة تكبره بعشر سنوات، ثرية وأمُّ ل12 ولداً. لم يكن تشايكوفسكي معروفاً بعد. صديقه الموسيقي جوزيف كوتيك صديق أيضاً لنادزيدا - محبّة الفنون وراعية المواهب، لا سيما الموهوبين الفقراء. بدأت المانحة الكريمة تكلف بيتر بتأليف مقطوعات لتعزفها على البيانو فتنسى أحزانها ووحدتها. «موسيقاك تجعل الحياة أسهل وأكثر متعة»، كتبت له. ثم، في رسالة تالية، بادرته بطلب غريب: «هلا أرسلت لي صورتك؟... قد يبدو لك طلبي هذا خارجاً على المألوف، لكن التقاليد والتهذيب مسائل مجرّدة من أي معنى بالنسبة إلى امرأة مثلي، تعيش في عزلة... في موسيقاك توق غير قابل للإشباع، فيها فرح وحزن، وخيالي لم يعد يقوَ على فصل الموسيقي عن الرجل». أرسل لها الصورة، وصوراً كثيرة في ما بعد، وردّت عليها بصورها، إنما مع تأكيدها أن هذا ليس مقدمة للقائهما، بل إنها تفضل ألا يلتقيا أبداً. «أتفهم رغبتك»، كتب لها، «لا بد أنك تريدين الاحتفاظ بصورة الرجل الذي في مخيلتك، وتخشين، في الواقع، ألا تجدي التناغم الذي حلمتِ به». عانى تشايكوفسكي حزناً مزمناً وكآبة التصقت بشخصيته، منذ أن فقد أمه في سن مبكرة. حتى إنه كتب لأحد أصدقائه يوماً إنه قرر الزواج... من أي كان، لأنه ما عاد يحتمل وحدته. وتزوج ممن لا يحب، كما كتب لراعيته. ثارت غيرة ناديزدا وإن غلّفتها بفائض من التهذيب، فكتبت له إنه حتماً سيكون سعيداً لأنه قرر أن يعطي، «ومن يستحق السعادة أكثر منك يا صديقي الحبيب؟». لكنه تعس، وانفصل عن زوجته بعد ثلاثة أشهر، وهنا تدفّقت، على الورق، مشاعر نادزيدا بلا كوابح، فبادلها إياها، ليتضح البوح بينهما ويتعمق. وعلى رغم عذرية علاقتهما، بل افتراضيتها، كانت بعيدة من الإنشاء الكتابي، ولو أن أدوات التعبير اللغوي في تلك الأيام قد تضلل السامع المعاصر. الواضح، من نصوص الرسائل، التي تناوب على قراءتها مُمسرحةً، سيمون راسيل بيال (بيتر) وهارييت والتر (نادزيدا)، مرتديين أزياء تلك الحقبة، أن الثنائي «عاش» العلاقة. تناقشا وتشاورا وتأثّرا ببعضهما بعضاً. ها هي تخبره بأنها تؤمن بالنبل الإنساني وحده، ب «يد القدر» التي قد تتجسّد في وقع الموسيقى في نفسها، بالسعادة والتعاسة على هذه الأرض حيث الحياة الحصرية. وأسرّ لها بدوره بنفوره من الناس، وحتى بنواقصه كرجل يصرعه «الجنون» أحياناً، ثم لا يلبث العمل أن ينقذه من السقوط الأخير. يقطع الباريتون فاسيلي لاديوك القراءة، منشداً «لا شيء سوى القلب الوحيد» من «الرومانسيات الست». وقبله، غنّت السوبرانو هيبلا غيرزمافا، ومثّلت، مشهد الرسالة من «يوجين أونيغن». ومن بعد قراءة مقطع «النبل الإنساني»، خرجت الباليرينا - البجعة، برفقة أميرها، ليؤديا «خطوة لاثنين»، لا يفصلنا عنهما سوى مترين أو ثلاثة. واستجابة لما طُلب قبل الحفلة، امتنع الجمهور عن التصفيق حتى النهاية، ما كثّف العرض الذي استمر 90 دقيقة كفقاعة مثالية تحتدم أحداثها ومؤثراتها، سمعاً ورؤية، على الخشبة، كما في المخيلات. «سيمفونيتنا» العلاقة في تصاعد مستمر. بمرور الوقت، ما عادت نادزيدا متلقية سلبية تغتبط بمؤلفات بيتر وتستزيده. صارت تعلّق، كناقدة. حتى إنها راحت تكلّفه بمؤلفات لآلات بعينها. كتب لها ذات مرة: «طلبتِ مني مرة مقطوعة للبيانو والكمنجة والتشيللو، وأنا أمقت تلك الثلاثية، فرفضت، لكنني كتبت المقطوعة الآن، وأتمنى أن تدخل إلى قلبك بهجة»... وهنا تنشّقنا جميعاً رقّة «تريو البيانو» الشهيرة تعزف حيّة. أما السيمفونية الرابعة التي أراد تشايكوفسكي إهداءها إلى نادزيدا، فلم يُقدّر لها اسم صديقته الحبيبة، إذ رفضت أن يسميها باسمها علناً، فأذعن تشايكوفسكي وعرفت المقطوعة المشهودة لتشايكوفسكي باسم «سيمفونيتنا»، تماماً كما كانا يشيران إليها في المراسلات. تبدأ بعظَمَة آسرة، قبل أن ترقّ وتحنو، ثم تكابد التوتر واللهفة والحرمان، وربما الغضب. مشاعر يعرفها الثنائي جيداً، وبتنا نعرفها معهما ومن خلالهما. الحاجة إلى المال ربطت أيضاً بيتر تشايكوفسكي بنادزيدا. بعد طلاقه، ولما شكا لها وهنه النفسي المصحوب بالديون، خصصت له راتباً سنوياً ثابتاً، ستة آلاف روبل تخفف شقاءه وتبعد عنه أشباح الدائنين، لتكون هي «دائنته وملهمته الوحيدة» كما أسماها. استمر الوضع هذا لسنوات، لكن الراعية المكوية بشغفيها، كامرأة ومتذوقة للفن الرفيع، بدأت تعاني أزمة مالية، وأجبرها أولادها على خفض نفقاتها، فكان راتب «الصديق الحبيب» أول ضحايا التقشّف. انقطعت المعونة المالية عن تشايكوفسكي، وانقطعت معها رسائل نادزيدا، فأصيب الفنان في الصميم. غرق في يأسه، وتوسّلها في رسالة تلو الأخرى، أن تعود إلى مكاتبته، فلم يتلقّ سوى صمت مفجع. ما عاد يريد مالها. تراكمت ديونه مجدداً، لكنها أصبحت آخر همومه. أراد صديقته. لم يستطع مغالبة فكرة أنه «شيء» رمته أرملة ثرية لمّا ملّته... «أن تنسيني بهذه السرعة»، غنّى الباريتون فاسيلي لاديوك، وسرعان ما وافته السوبرانو هيبلا غيرزمافا. كتبت نادزيدا أخيراً أنها مصابة بالسل، تحتضر، ولا تقوى على الكتابة. وحين طلب بيتر من صديق مشترك، هو الموسيقي وصهر نادزيدا فلاديسلاف باخوسلكي أن يكون صلة الوصل بينهما، حرص الصهر، لغيرته من رعاية نادزيدا لتشايكوفسكي على ألا تصل إليها رسائله أبداً. في تشرين الثاني (نوفمبر) 1893، توفي تشايكوفسكي بمرض الكوليرا جراء شربه مياهاً غير مغلية في أحد المطاعم. أرسلت نادزيدا إكليل زهور، بلا رسالة تعزية إلى عائلته التي أعدّت لاستقبال ستة آلاف مشيّع فوفدها ستون ألفاً. وبعد ذلك بشهرين، فارقت نادزيدا الحياة. هكذا، اختتم عرض «الصديق الحبيب» على صوتي لاديوك وغيرزمافا يصدحان بالديو الأخير من «يوجين أونيغن»، بعدما استعرضت فرقة الأوبرا الملكية بعضاً من كل ما تجيده، غناء ورقصاً ومسرحاً. لكن أثراً ما يرافق الخارج من القاعة، سؤال من الأغنية الأخيرة بعد موتَين: «لماذا ينسدل الندى على الغابات ككفن الجنازة؟».