راحت الروائية جمال سليم نويهض «أم خلدون»، إحدى الرائدات العربيات، تراكم حضورها في المشهد الثقافي العربي منذ ثلاثينات القرن الماضي، وهو حضورٌ متنوّع توزّع على الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرحية، وتمخّض عن واحدٍ وثلاثين عنواناً منشوراً أو مخطوطاً في هذه الأنواع الأدبية المختلفة. وبمناسبة صدور خماسيتها الفلسطينية، لا بد من إلقاء الضوء على أم خلدون الروائية من خلال «الفدائي»، الرواية الأخيرة في الخماسية (دار الاستقلال للدراسات والنشر). على أن لا بد من الإشارة إلى أن روايتين اثنتين من هذه الخماسية هما «مواكب الشهداء» و «غربة في الوطن» تُطبعان للمرة الثانية، والثلاثة الأخر تُطبع للمرة الأولى، وهي «الحمامة البيضاء»، «من أجل أمي»، و «الفدائي». والروايات الخمس مجتمعة تتناول مفردات النكبة، النكسة، البطولة، الاستشهاد، الصمود، اللجوء، الغربة، الكفاح، البؤس والفداء، ممّا ينتمي إلى المعجم الفلسطيني المعاصر بامتياز. أمّا لماذا «الفدائي» من دون غيرها؟ فالجواب هو: لأن هذه الرواية أثيرة على قلب صاحبتها، فقد كتبتها مرّتين: أولى في منتصف الخمسينات، وثانية في بداية التسعينات وهي في الرابعة والثمانين، ولأنها الأخيرة في الخماسية ما يجعلها تتويجاً لها، ولأن ظاهرة العمل الفدائي هي العلامة الفارقة للقضية الفلسطينية، مع العلم أن هذه المعايير هي محض شكلية، ولا تمتّ إلى روائيّة الرواية بصلة. تغطّي «الفدائي» زمنيّاً ثلاثة عقود تمتد من منتصف الخمسينات من القرن الماضي حتى منتصف الثمانينات، أي منذ انطلاقة العمل الفدائي حتى تاريخ استشهاد البطل في عملية جريئة. وتتحرّك مكانيّاً في فضاء واسع، متعدّد، يشتمل على فلسطين، مصر، الأردن، لبنان، وسورية. وانطلاقاً من هذه التغطية الطويلة، وتلك الحركة الواسعة، ترصد جمال سليم نويهض حركة العمل الفدائي في هذا الفضاء الكبير، من خلال شخصية خالد حمدان ابن غزة. وترصد بالتزامن معها حركة الشتات الفلسطيني، داخل فلسطين وخارجها، من خلال أسرة خالد، في تنقّلاتها القسرية هرباً من خطر، أو بحثاً عن أمن، أو مواكبةً لحركة الفدائي. وهي تنقّلات شكّلت غزة، خان يونس، البيرة، مخيّم الكرامة، عمّان، السّلط، صيدا، عين الحلوة ومخيّم اليرموك محطّات موقّتة لها، على درب الجلجلة الفلسطينية الطويل. وجمال سليم نويهض لا ترصد هاتين الحركتين الكبيرتين بمعزل عن حركة التاريخ وتمظهراتها الكبرى، فهي تضع الأحداث الخاصة لشخصياتها الروائية في الإطار التاريخي العام، فتحضر في الرواية أحداث كبرى كالعدوان الثلاثي على مصر، أحداث أيلول 1970 في الأردن، الحرب الأهلية اللبنانية، والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وهكذا، تُشكّل هذه الأحداث الخلفية التاريخية لأحداث الرواية وحركة شخصياتها، فيتفاعل الخاص والعام إلى حد التماهي، وتتفاعل السيرة والتاريخ إلى حد الذوبان، وتكتسب رواية «الفدائي» أبعاداً ملحمية فهي لا تعود مجرّد روي ورصد لحركة مجموعة من الشخصيات في فضاء مكاني معيّن، وفي زمان محدّد ومحدود، بل تغدو تاريخاً بالرواية لشعب مناضل في سعيه العنيد إلى التحرّر من ربقة الاحتلال، وبناء مستقبله المنشود. صفارة يافا يُشكّل إطلاق صفّارة الإنذار في مدينة يافا المحتلّة في عام 1955 بداية الرواية، ويُشكّل استشهاد خالد حمدان في عملية جريئة داخل الأرض المحتلّة منتصف الثمانينات نهايتها. وبين البداية والنهاية سلسلة طويلة من الوقائع والأحداث تتمظهر خلالها شخصية الفدائي، وتروح تتبلور شيئاً فشيئاً مع تقدّم حركة السرد. على أن بناء هذه الشخصية روائيّاً يتمّ من خلال مصادر ثلاثة متفاوتة في طولها: قصير نظري يقتصر على نصف الصفحة الثالثة والثلاثين ويتناول وصفاً نظريّاً لصفات الفدائي ومزاياه، متوسّط سماعي يتناول ما يتمّ تداوله عن الفدائي من منظورين مختلفين إسرائيلي وعربي، وطويل وقائعي يتناول ما تقوم به هذه الشخصية من أعمال وعمليّات. ينجم عن هذه المصادر شخصية مركّبة تتراوح بين حدّين اثنين: مثالي أسطوري، وواقعي عادي. في الحدّ الأول، يبدو خالد حمدان شخصية مثالية خارقة يتربّص بالأعداء، يُلقي الرعب في نفوسهم، يُتقن التخفّي والمفاجأة والمناورة، ينفّذ العمليات الجريئة، يقتحم الأخطار، لا يخشى الموت، يُشارك في التصدّي للعدوان الثلاثي على مصر ويخوض معركة الكرامة في الأردن، يترفّع عن أذى أطفال الأعداء، يرفض الاقتتال بين رفاق السلاح... وفي الحدّ الثاني، هو بشرٌ من لحم ودم، يحبّ زوجته وأسرته، يمرّ بلحظات ضعف بشري، يبكي، يحزن، يفرح، يحبّ، يصادق... إلى ما هنالك من مشاعر بشرية، طبيعية. على أن الحيّز المتاح لهذا الحدّ في الرواية أقلّ بطبيعة الحال من ذاك المتاح للحدّ الأوّل. وتأتي الواقعة الأخيرة في النص، المنتمية إلى هذا الحدّ، والمتمثّلة باستشهاد خالد في عملية جريئة، لتقول إن العمل الفدائي هو الطريق لتحرير فلسطين، وإن «ما أُخذ بالقوة لا يُستردُّ بغير القوة». هذه الحكاية/ الملحمة تصوغها أم خلدون في سبع عشرة وحدة سردية، ثمانٍ ونصف منها كتبتها عام 1956، وثمانٍ ونصف كتبتها عام 1990. وعلى رّغم الأربعة وثلاثين عاماً بين القسمين تبدو الرواية على وحدة عضوية، فالفجوة الزمنية الطويلة لم تنعكس فجوة فنية/ روائية. على أن العلاقات بين الوحدات السردية المختلفة هي علاقات تجاور وتموضع في الحيّز الروائي الواحد من دون أن تكون علاقات ترابط وتسلسل بالضرورة، فلكلّ وحدة استقلاليتها النسبية، وقد تكون بداية الوحدة السردية بداية خيط سردي جديد لا سيّما في الوحدات الأولى من دون أن يعود الخيط في نهاية الوحدة إلى التعلّق ببداية الوحدة اللاحقة. وهكذا، نكون أمام قافلة من الوحدات المتعاقبة من دون أن يربط بينها حبل واحد. وبهذا المعنى، نحن إزاء بنية روائية «حديثة»، على مستوى العلاقة بين الوحدات السردية على الأقل. وهذه البنية تناسب، بطبيعة الحال، حالة عدم الاستقرار والرحيل الدائم والشتات التي تعيشها شخصيات الرواية. وبعد، في قصة حياتها التي كتبتها في الخامسة والثمانين، وافتتحت بها خماسيّتها، تصف أم خلدون طبيعة العلاقة التي تربطها بكل من بناتها الأربع، فترى أن سوسن هي أمّها، ونورا أختها، وبيان ابنتها، وجنان رفيقتها. اليوم، تثبت الدكتورة بيان، بالفعل، أنها ابنة أمّها. ومن كانت لها ابنة كبيان فلن يخمد ذكرها أبداً.