يحكى عن موسيقي متسكع أراد يوماً أن يسير في الغابة ويتخذ له مكاناً فيها، فإذا بالسماء تتلبد ويكفهر الجو، وتتناهى إلى سمعه أصوات حيوانات تتواثب من بعيد للانقضاض عليه، فيتيقن وهو الجسم الغريب أنه مقضي عليه، فيتمالك أعصابه ويهتدي إلى حيلة تبقي عليه حياته، فيجلس على جذع شجرة، ويسحب آلته الموسيقية ويأخذ بالعزف عليها، فإذا بذئب يهم بالهجوم عليه وما إن يقترب ويسمع ألحانه، حتى يربض أمام قدميه، وكذلك يفعل الذئب الثاني.. والنمر والقرد وبقية الشلة، حتى يجد العازف نفسه وقد أحيط بالمستمعين، وكلما تفاقم عددهم تعمق شعوره بنجاته وبقدرته على الترويض بألحان استمرت كيفما اتفق، فليس من الضروري الاعتناء بالأنغام فهي معزوفة لمخلوقات لا تعي ما تسمع في نظره، إلى أن أتى عليه نهار وإذا بذئب يهم بمهاجمته، فيدافع العازف عن نفسه متسائلاً عن سر شراسة الذئب وقد رضخت لموسيقاه بقية الحيوانات، فيهمس ذئب من جمهور الذئاب المدجّنة في أذنه: «نسينا أن نخبرك بأن بيننا ذئباً أطرش»، فينتفض العازف هارباً وهو يتمتم: «حسبت كل حساب، إلا أن يكون في الغابة ذئب أطرش». كلمة أخيرة: عبدالله بن المقفع الفارسي الذي أرسله ذووه إلى بغداد لتعلم العربية والاندماج في الحضارة الأكثر تقدماً، ترجم حكايات على ألسنة الحيوانات عرفت باسم «كليلة ودمنة» وحظيت بإعجاب البلاط العباسي، وقد ترجمت بدورها إلى الفرنسية في القرن ال13 وأصبحت من أبرز كلاسيكيات الأدب العالمي، حتى قيل إن الكاتب «لافونتين» في القرن ال17 استوحى منها حكاياته التي صاغها أيضاً على ألسنة الحيوانات في 12 كتاباً، ضمت حوالى 230 أمثولة منظومة شعراً لا تخلو من الحكمة والموعظة والطرافة بأسلوب أدبي وحس رفيع بالشاعرية أكسبتها شعبية بين الأطفال والكبار معاً، فنشأة لافونتين في الريف الفرنسي قد ملأت روحه بالرقة وحب الطبيعة، فكانت عيناه مهيأتين لتذوق الجمال في كل شيء حتى في القبح، ولأنه رجل لم يقنع بالحياة الرتيبة، فكان مصير زواجه الفشل، فلم يعبأ بفراق زوجته وابنه، فلديه دائماً ما يشغله ويحتل معظم تفكيره... مات شيخاً هرماً عام 1695 ولكنه استمر حتى آخر أنفاسه حصيفاً ساخراً، ومن ذلك قوله: «استعملت الحيوان لإرشاد الإنسان»، وفي ذلك نستفيض فنقول لعازف الغابة ولكل امرئ سواه ألا يغتر بنفسه وبعزفه من موقعه ظناً منه أن من يحيط به سيبقى طيعاً لألحانه وإنجازه أياً كان مستوى جودتها، من دون الأخذ في الاعتبار أن من الجائز أن يكون بين الجمهور ذئب أطرش (أو مدعي الطرش) لا يسمع شيئاً، أما الأزمة فهي في عدم اكتشاف الذئب الأطرش إلا بعد فوات الأوان، وإن كانت الضريبة العادلة لكل عزف وعازف نشاز. يقول الأديب الإنكليزي الأميركي الأصل هنري جيمس: «تتجلى الحياة البشرية في جميع الحيوانات». وقالوا: «عيّر كلب لبؤة بأنها في عمرها لا تلد إلا شبلاً واحداً، فقالت له: ولكنه أسد» تشرشل. [email protected]