ما من شك في أن «الخدمة العالمية» (وورلد سيرفيس) في «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) التي تحتفل هذه الأيام بمرور 80 سنة على انطلاق بثها، جاءت في إطار سعي صنّاع القرار في «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس»، إلى تكريس نفوذهم في المستعمرات التي كانوا يسيطرون عليها في أنحاء المعمورة. ولكن، فيما تحجّمت «الإمبراطورية» على مر العقود الماضية لتعود إلى حجمها الطبيعي ممثلاً بجزيرة لا ترى الشمس إلا نادراً، حققت «الخدمة العالمية» في «بي بي سي» نجاحاً لا مثيل له بعدما تمكنت من التحدّث إلى شعوب الأرض بلغاتهم المختلفة أين ما كانوا. فكيف نجحت «الخدمة العالمية» حيثما فشلت «الإمبراطورية»؟ لم تكن ال «بي بي سي» ذاتها تدري عند انطلاق البث العالمي في 19 كانون الأول (ديسمبر) 1932 بأنها ستصبح خلال ثمانية عقود اسماً يرتبط بصدقية الخبر ودقته. فالمدير العام للمحطة آنذاك اللورد جون ريث كان صريحاً في رأيه المقلل من أهمية بدء البث العالمي، إذ قال: «البرامج لن تكون جيدة، ولا مثيرة». كم كان مخطئاً في حكمه الذي يدحضه اليوم في شكل صارخ رقم عدد المستمعين البالغ 166 مليوناً كل أسبوع في أنحاء العالم. لم تنتظر ال «بي بي سي» طويلاً حتى تبدأ مشوار نجاحها. فبعد 10 سنوات فقط من بدء البث عبر الموجة القصيرة، كانت ال «بي بي سي» تبث ب34 لغة من خلال 78 نشرة أخبار وتشغّل 1400 شخص في «خدمتها العالمية» التي كانت تُسمّى في البدء «إمباير سيرفيس» (الخدمة الإمبراطورية). وساعد في انتشار بث ال «بي بي سي» أن الموجة القصيرة هي موجة عالمية يمكن التقاطها في أي مكان، لكن مشكلتها الأساسية أنها تكون في أحيان كثيرة غير واضحة، ويمكن أن تتعرض للتشويش. وتفيد ال «بي بي سي» بأنها أصرت منذ البدء على أن تنال «الخدمة العالمية» ذات الحرية من السيطرة الحكومية كالتي تتمتع بها الخدمة المحلية، وهو أمر ساهم بلا شك في مساعدتها على تأكيد استقلاليتها عن سياسة الحكومة البريطانية. ولكن، فيما كانت الخدمة المحلية في «بي بي سي» تموّل من دافعي الضرائب في بريطانيا، كانت موازنة «الخدمة العالمية» تأتي من وزارة الخارجية البريطانية، ما كان يثير تساؤلات حول مدى استقلالية الخدمة العالمية عن سياسة بريطانيا، وهل هي أداة إضافية من أدوات مدّ النفوذ البريطاني حول العالم؟ والظاهر أن ألمانيا النازية في أربعينات القرن الماضي لم تكن تثق حقاً بأن الخدمة العالمية مستقلة عن سياسة بريطانيا، إذ حاولت التشويش على بثها الموجّه إلى أوروبا التي كانت خاضعة أجزاء واسعة منها لسيطرة الألمان. ولم يكتف النازيون بالتشويش على البث، بل لجأوا إلى محاولة إسكات ال «بي بي سي» كلياً من خلال قصف مقرّها في لندن، فنقلت «الخدمة العالمية» إلى «بوش هاوس» في العاصمة البريطانية، والذي بقي مقرها حتى مطلع العام الحالي. مع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، بدأت ال «بي بي سي» عملية توسع ضخمة، فصارت تبث ب45 لغة مختلفة بعضها موجّه تحديداً إلى الدول الأوروبية «الشيوعية» الواقعة تحت الهيمنة المباشرة للاتحاد السوفياتي وراء ما يُعرف ب «الستار الحديد». وخلال «الحرب الباردة» لجأت موسكو إلى التشويش على بث «الخدمة العالمية» باللغة الروسية طوال 24 سنة، وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع بعض الأقسام التي تبث بلغات دول الكتلة السوفياتية. ولم يوقف الاتحاد السوفياتي تشويشه على ال «بي بي سي» سوى في كانون الثاني (يناير) 1988. لكن دولاً أخرى لا يبدو أنها اتعظت بفشل الروس الشيوعيين، وقبلهم الألمان النازيين في منع وصول بث ال «بي بي سي» إلى مواطنيها. إذ توضح المحطة البريطانية أن عقد التسعينات شهد بدوره محاولات تشويش ضدّ بثها قامت بها دول مثل بورما والصين والعراق وليبيا. وما زال بث ال «بي بي سي» بلغة الماندرين والموجه إلى الصين يتعرض للتشويش حتى اليوم. وفي عام 1985 توقف بث الخدمة العالمية للمرة الأولى بعدما أضرب الموظفون احتجاجاً على قرار حكومي بمنع بث برنامج عن جماعة «شين فين»، الجناح السياسي للجيش الجمهوري الإرلندي الذي كان يقوم بتفجيرات إرهابية في بريطانيا في إطار كفاحه من أجل استقلال إرلندا الشمالية عن التاج الملكي. وعلى رغم أن ال «بي بي سي» تبث بالكثير من لغات الأرض، إلا أن العربية لها مكانة مرموقة بينها. فقد كانت لغة الضاد أول اللغات الأجنبية (غير الإنكليزية) التي تم البث بها في «الخدمة العالمية» بدءاً من عام 1938. وبعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وسّعت ال «بي بي سي» خدمتها تجاه العالم العربي والإسلامي، وشمل ذلك خصوصاً البث لفترات طويلة بالعربية والفارسية والبشتو. واللغتان الأخيرتان يتحدث بهما سكان أفغانستان والدول القريبة منها. وفي عام 1998 صارت اللغة العربية أول موقع على الإنترنت بلغة أجنبية ضمن مواقع «الخدمة العالمية» في «بي بي سي». وتقول المحطة إن «بي بي سي أرابيك دوت كوم» (www.bbcArabic.com) هو أكثر مواقع «الخدمة العالمية» على الإنترنت رواجاً، إذ يتلقى أكثر من 8 ملايين زيارة شهرياً. لكن الموقع العام ل «الخدمة العالمية» (بالإنكليزية) يتلقى 75 مليون زيارة في الشهر. ويساعد في رواج الموقع أن الأخبار والتحليلات التي يقدمها على مدار الساعة كل يوم بات يمكن الاستماع إليها في أي وقت يناسب المستمع الذي يمكنه أن يحدد البرنامج الذي يريده ويستمع إليه مباشرة أو في أوقات فراغه بعد تنزيله من الموقع. و «الخدمة العالمية» اليوم هي في الحقيقة مجموعة إذاعات وتلفزيونات ومواقع على الإنترنت. وهي تبث ب28 لغة مختلفة (بعدما تم إلغاء الكثير من أقسام اللغات الأجنبية). وإذا كانت الإنكليزية ما زالت هي الأقوى بين إذاعات «الخدمة العالمية»، إذ يتابعها 43 مليون مستمتع، فإن اللغة العربية لا تبدو بعيدة كثيراً عنها، إذ يتابعها أكثر من 33 مليون مستمع، تتبعها لغة الهوسا الأفريقية ب23 مليون مستمع، ثم اللغة السواحيلية (شرق أفريقيا) ب20 مليون مستمع، والفرنسية ب11 مليوناً. واللافت أيضاً أن ال «بي بي سي» تشهد حالياً موجة انتشار لا مثيل لها في الولاياتالمتحدة ذاتها، إذ بات يتابعها أكثر من 10 ملايين مستمع أسبوعياً، أي بزيادة ثلاثة أضعاف خلال عشر سنوات.