تختار الهيئة الناخبة الألمانية المشكّلة من مجلسي النواب والولايات اليوم الرئيس الحادي عشر للبلاد خلفاً لكريستان فولف، الرئيس الذي استقال قبل ثلاثة أسابيع على خلفية اتهامه بقضايا فساد واستغلال السلطة حين كان رئيساً لحكومة ولاية سكسونيا المنخفضة. وعلى رغم أن منصب رئيس الدولة في الدستور الألماني محدد بعدد قليل جداً من الصلاحيات التنفيذية مثل الموافقة على بعض القوانين والمراسيم الصادرة عن الحكومة والبرلمان، أو العفو عن سجناء وحل البرلمان في ظروف خاصة جداً وبطلب من المستشار، فإن طابعه الرئيس يتمثل في كونه سلطة معنوية ومناقبية في الدرجة الأولى تسعى لأن تكون مثالاً للجميع ومحاوراً مباشراً مع المواطنين. من هنا اشتراط الدستور على الرئيس المنتخب تجميد عضويته في الحزب الذي ينتمي إليه ليكون رئيساً لكل مواطني بلده مع الامتناع عن التدخل في الحياة السياسية اليومية. صحيح أن لا رئيس واحداً لألمانيا تحلى بكل هذه الصفات المحددة في الدستور في وقت واحد، وأن كل الرؤساء الألمان الذين انتخبوا كانوا أعضاء في أحزاب سياسية قائمة، وتأثروا بالتالي بمواقف أحزابهم بهذا القدر أو ذاك في هذه القضية أو تلك، ما دفع بأطراف عدة إلى توجيه الانتقادات إليهم، لكنهم كسبوا في النهاية احترام الجميع تقريباً وتقديرهم. وأظهر بعضهم، وفي مقدمهم ريتشارد فون فايستسكر (1984 - 1994)، نوعاً خاصاً من القدرات والمناقب والرؤى ساهم في رفع القيمة المعنوية والأخلاقية للمنصب إلى درجة أصبح الرؤساء اللاحقون يعانون مما خلّفه من إرث. في هذا الإطار يمكن فهم المصير السيّئ الذي واجهه الرئيس فولف الذي اضطر بعد مرور عشرين شهراً على انتخابه، إلى الاستقالة إثر الكشف عن استغلاله منصبه لغايات نفعية عندما كان رئيساً لحكومة ولاية سكسونيا المنخفضة، ما دفع بالنيابة العامة الألمانية إلى ملاحقته رسمياً. وهذا أمر لم يحصل مع أي رئيس سابق منذ تأسيس ألمانيا الاتحادية بعد الحرب العالمية الثانية. ولعبت الصحافة الألمانية بكل أطيافها دوراً حاسماً في هذا المجال وتمكنت مع المعارضة السياسية من إحداث صدمة وجدانية عميقة في البلاد لم تنته فصولاً بعد. وواجه فولف خلال ثلاثة أشهر تهماً عدة بينها تهمة اقتراض مبلغ نصف مليون يورو بفائدة بسيطة لا يحصل عليها المواطن العادي من أجل شراء منزل له وتمكن بالكاد من تبرير فعلته. وهو ملاحق حالياً من الادعاء العام بتهمة مساعدة مخرج سينمائي صديق على الحصول على قرض حكومي بقيمة أربعة ملايين يورو وقبوله دعوة منه لقضاء عطلة مع زوجته لمدة أسبوع على نفقة الأخير. وقامت النيابة العامة أخيراً بتفتيش منزل الرئيس السابق وصادرت وثائق عدة وحاسوبه الخاص للبحث عن اثباتات ضده بعد تشكيكها في كلامه بأنه دفع لاحقاً أجرة الفندق الذي سكن فيه نقداً إلى صديقه المخرج. حالة فساد وواضح أن المرء يقف هنا أمام حالة فساد لا يمكن مقارنتها بتاتاً مع حالات الفساد ذات الروائح العفنة السائدة في أنظمة عدة في العالم، بخاصة في الكثير من البلدان العربية والنامية. ولا شك في أن التهم الموجهة إلى فولف تدفع كثيرين في هذه الأنظمة إلى الاستهزاء من «الفساد» الذي نحن في صدده هنا في ألمانيا. لكن المسائل هنا تقاس بقياس آخر، والأمر يتعلق بمجتمع يسعى باستمرار إلى أن يكون أكثر أخلاقية ومسؤولية وتماثلاً مع القوانين الموضوعة التي لا تخلو منها الدول الأخرى، إنما لا تجد أي اكتراث لها من الطبقة الحاكمة. وإضافة إلى أن حالة فولف أحدثت صدمة وجدانية عميقة في المجتمع الألماني الذي تحولت غالبية ساحقة فيه بعد فترة من مؤيدة له إلى مطالبة باستقالته، أظهرت عملية البحث عن خليفة له مصاعب جمّة، ليس فقط على صعيد البحث عن شخص مناسب للمنصب وتنظيم عملية انتخابه خلال فترة لا تتجاوز ال 30 يوماً، وإنما أيضاً على مستوى الوجل الذي أصاب الشخصيات التي اقترحتها المستشارة الألمانية أنغيلا مركل، ومن بينها رئيس البرلمان الاتحادي الذي قيل عنه انه كان يسعى إلى منصب الرئيس، إنما واجه اعتراضاً من مركل التي فضلت فولف عليه. وبعدما رفضت شخصيات عدة المنصب، وجد حزبا المعارضة، الاشتراكي والخضر، فرصة ذهبية لإعادة طرح مرشحهما المشترك، القس الانجيلي السابق يواخيم غاوك (72 سنة) من جديد كمرشح إجماع. وغاوك ناشط حقوقي ألماني شرقي تمكن قبل الوحدة الألمانية وبعدها من لعب دور مميز ومن الحصول على احترام فئات واسعة من الرأي العام، بخاصة أنه لا ينتمي إلى أي حزب سياسي من دون أن يعني ذلك أن لا مواقف سياسية له. وأمام فشل مركل في اقناع القريبين منها بقبول المنصب وجد الحزب الليبرالي الحليف لها في الحكومة فرصة مواتية لكي يخرج من حالة انعدام الوزن ويظهر استقلاليته عن التحالف المسيحي المهيمن عليه، فأعلن بدوره تأييده لانتخاب غاوك رئيساً جديداً. وكاد التحالف الحكومي أن يتفجر لو لم تلمس القيادة المسيحية أنها غير قادرة هذه المرة على تأمين أكثرية أصوات الهيئة الناخبة المشكلة من 1324 صوتاً للمرشح الذي ستقترحه. وبدا الوجوم على وجه المستشارة والتلعثم في كلامها خلال الإعلان عن الاتفاق على مرشح مشترك في مقر المستشارية بوجود غاوك وقادة الأحزاب الخمسة في الحكومة والمعارضة باستثناء حزب اليسار الرافض لشخص غاوك من حيث المبدأ. وأجمع المراقبون على أن مركل أصيبت بهزيمة سياسية واضحة على يد الليبراليين الذين خذلوها ويأملون الآن في أن يؤدي ظهورهم المستقل عن المسيحيين إلى إعادة جذب مؤيديهم السابقين ورفع حظوظهم من جديد للفوز في الانتخابات النيابية العامة التي ستجرى في خريف العام المقبل. شرقيان في أعلى مرتبتين ويبدو أكيداً أن تاريخ ألمانيا سيسجل في 18 الشهر الجاري واقعة مهمة جداً تتمثل في تقلّد ألمانيين شرقيين في وقت واحد أعلى مرتبتين في الدولة الألمانية الحديثة في وقت لا يزال الشرقيون بعيدين جداً عن لعب أدوار فاعلة في وظائف الفئة الأولى والثانية في الدولة. وقد يبدو أن الأمر مجرد صدفة تاريخية، لكن تحليلاً سريعاً يوصل إلى دلالة في غاية الأهمية. إن مجرد البحث عن أسباب وصول مركل إلى منصب المستشار عام 2005، وقبل ذلك إلى منصب رئيس الحزب الديموقراطي المسيحي عام 2000 يظهر واقع أن الاثنين وصلا إلى أعلى المراتب في سياق الكشف عن حالات فساد هزت الجمهورية بصورة مدوية. فقد أدى الكشف عن الحسابات المالية السرية للمستشار السابق هلموت كول إثر هزيمته في انتخابات عام 1998، ورفضه المطلق البوح بأسماء المتبرعين له ولحزبه، وتمنع قيادة الحزب عن الدفاع عنه، إلى رد فعل عنيف من أتباعه ضد رئيس الحزب آنذاك فولفغانغ شويبله (وزير المال الحالي) تمثّل في إفشاء واقعة قبوله رشوة مالية (100 ألف مارك) من أحد تجار السلاح، ما فرض على الأخير الاستقالة. ولدى البحث عن خلف له في رئاسة الحزب، أحجم عن التقدم كل من كان يتطلع للوصول إلى المنصب الرفيع الذي يؤهل صاحبه لأن يصبح مستشاراً للبلاد خوفاً من افتضاح أمر ما في ماضيه السياسي. واتجهت الأنظار في حينه إلى مركل التي كانت تتقلد الأمانة العامة للحزب مع سجل سياسي ومالي نظيف كل النظافة. وكان الاعتقاد السائد لدى الكثير من قادة الحزب بأن مركل ستفشل في قيادتها بعد فترة وتستقيل بعد أن تكون العاصفة التي عصفت بالحزب مرّت وهدأت خواطر الناس. لكن مركل، الألمانية الشرقية البسيطة الخبرة والحنكة السياسية، فاجأت الجميع وأظهرت خلال فترة وجيزة قدرة كبيرة على القيادة وتقرير الأمور وإبعاد معارضيها، وبالتالي تثبيت مكانتها إلى أن حققت الفوز بمنصب المستشار أواسط العقد الماضي. ويمكن هنا لمس وضع مشابه للمرشح غاوك، الألماني الشرقي النظيف الكف أيضاً، القادم إلى تسلم منصب الرئاسة المترنح تحت ثقل الفساد بأمل إعادة الهيبة إليه واستعادة ثقة المواطنين به. وتؤكد هذه المقارنة، أولاً، أن حالات «الفساد» بين السياسيين الشرقيين أقل بكثير مما هو موجود لدى نظرائهم الغربيين الذين بنوا علاقات قوية مع الاقتصاد الخاص. وتؤكد، ثانياً، أن سياسيين غربيين كثراً لا يزالون يعتقدون أن منافسيهم الشرقيين أقل خطورة على مستقبلهم السياسي من منافسة زملائهم الغربيين بسبب قلة خبرة الشرقيين. غير حزبي وكان غاوك المعروف بعدم انتسابه إلى أي حزب سياسي في البلد منافساً قوياً لفولف على منصب الرئيس قبل عشرين شهراً. وانعكس ذلك بوضوح على نتائج التصويت في حينه، إذ لم يتمكن مرشح مركل من الفوز بمنصبه إلا في الجولة الثالثة بسبب رفض نواب كثر من التحالف الحكومي التصويت لفولف. ولم يصوت نواب حزب اليسار لمصحلة غاوك في حينه بحجة أنه عادى الحزب بعد الوحدة الألمانية وعمل ضده عندما كان رئيساً لمكتب الكشف عن وثائق جهاز الاستخبارات الألمانية الشرقية (شتازي) وعملائه في ألمانيا. ولذلك قرر حزب اليسار ترشيح بيئاته كلارسفلد، وهي شخصية يسارية الهوى اشتهرت في ألمانيا وأوروبا بلقب «صيادة النازيين»، لكنها تعلم أن لا أمل لها بالفوز. وأظهر الاستطلاع الأخير أن غالبية الألمان تؤيد انتخاب غاوك رئيساً للبلاد مقابل حصول أسماء أخرى على معدلات منخفضة جداً. ويتمتع القس الانجيلي السابق بشخصية قوية ومحببة وبرأي موزون ومقنع، كما أنه من الخطباء البارعين وذو علاقة مباشرة مع الناس. وبدأت شهرته خلال الحكم الشيوعي في ألمانيا الديموقراطية بعد تعرضه إلى مضايقات من جانب الحكم وجهاز «شتازي» بسبب دفاعه عن الحرية والديموقراطية وعن مضطهدين آخرين. ويتوقع المراقبون أن يعيد غاوك الهيبة والثقة إلى منصب رئيس الدولة بما يملكه من خصائص وفضائل. كما يتوقعون أن يسبب «متاعب» ليس فقط لمركل، بل للأحزاب الأخرى أيضاً بسبب استقلاليته الشديدة عن الجميع واقتناعه بقدرته على توجيه الجمهورية تبعاً لمبادئ الدستور. وعن لونه السياسي قال غاوك عن نفسه أكثر من مرة: «أنا يساري محافظ ليبرالي أخضر».