كان كارل ماركس يوم الأحد الفائت يجلس وحيداً يترقب المارين أمامه ذهاباً وإياباً، وهو الذي صنف الناس في طبقات اجتماعية، قبل أن يأتي أحدهم ويشتريه بعشرة دولارات، كونه (وفق البائع) تمثالاً من البرونز الخالص يزن أكثر من 600 غرام ويعود تاريخ صنعه إلى أواسط القرن الماضي. إقبال الناس على الأشياء القديمة لاقتنائها يوجد صلة وصل بينهم وبين زمن ذهبي لن يعود، زمن جميل بكل تفاصيله الأصيلة. «اشتريت مذياعاً قديماً لأسمع عبره أغاني أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الوهاب، كذلك اشتريت أسطوانات كبيرة لهؤلاء الكبار أضعها في زاوية خاصة في غرفتي»، يقول ماهر العلي (55 سنة) عن سبب زياراته الأسبوعية لأسواق بيع التحف القديمة والخردة والمقتنيات النادرة. قطع «أثرية» تتعدد هذه الأسواق في بيروت، وتتنوع وفق السلع التي تعرضها وأسعارها، ومن أبرزها سوق صبرا، وسوق العتق القريب من وسط بيروت، ومنطقة بئر حسن حيث تباع المفروشات القديمة، و«سوق الأحد» المكان الأكثر شهرة وريادةً بين الفقراء والأغنياء على السواء. وعلى رغم تسميته «سوق الأحد» إلا أن عمليات البيع والشراء تبدأ فيه صباح كل سبت، حيث يبسط الباعة باكراً بضاعاتهم في شكل منسّق على جوانب ممرات طويلة متداخلة. قد يجذبك هنا كتاب قديم يقنعك البائع بأنه مخطوطة فريدة من نوعها، ويمكن أن يكون ذلك صحيحاً في بعض الأحيان، أو تجد قطعة أو تحفة نادرة مدموغة ببصمات تدل على تاريخها والفترة الزمنية التي تنتمي إليها ويقنعك البائع أيضاً بأن اقتناءك لها قد يميّزك عن باقي الناس، لكن الأكيد انك لن تجد قطعة تعود إلى ما قبل عام 1700، باعتبار أن القطع التي تعود إلى ما قبل هذا التاريخ تعتبر أثرية، وقانوناً لا يحق التداول بها، بل يعود حق ملكيتها إلى الدولة مع التعويض على صاحبها إذا حصل عليها بطريقة شرعية. وقد تجد في تلك الممرات زوايا خاصة بالملابس المستعملة أو الأحذية شبه الجديدة ل «ماركات» عالمية تجذب محبي الجودة والنوعية والمتانة، كذلك تجذب أولئك الذين حالت أوضاعهم الاقتصادية المتواضعة دون الحصول على البضاعة الجيدة من مصدرها الأساسي نظراً إلى ثمنها الباهظ . ماهر، يقصد الأسواق التي تبيع أشياء قديمة، لارتباط طفولي بعيد، ويوضح: «في طفولتي شاهدت مسلسلاً غربياً للصغار يبحث أبطاله عن كنز ثمين موجود في مكان ما وراء البحار وعنوانه «جزيرة الكنز»، اليوم تدفعني إلى هذه الأسواق الأسباب ذاتها التي كانت تدفع أبطالي الخياليين للبحث عن كنزهم، ومنها الفضول وفرصة اكتشاف النادر والنفيس واقتنائه، ذلك يشعرني براحة كبيرة، على رغم يقيني بأنني لن أجد أي كنز». ويضيف: «لا شك في أنني اعتدت الذهاب إلى هذه الأسواق وأفضّل زيارتها على النزهات والزيارات العائلية وأي شيء آخر، لقد عقدت صدقات كثيرة مع البائعين، وأعتبر نفسي خبيراً بكل البضائع والتحف القديمة، وأعدت تجهيز بيتي في شكل كبير بالتحف القديمة والنفيسة والنادرة كاللوحات المدموغة بتوقيع أصحابها والساعات والثريات النحاسية والتماثيل العاجية... وغير ذلك. أجلس عند المساء وأنظر إلى هذه المقتنيات فتتملكني حال من السكون والاطمئنان». شعور بأن البائعين هناك أصبحوا خبراء بعلم النفس، يتملكك، فهم يعرضون بضاعاتهم بطريقة جذابة، ويقومون بتمرير معلومات متميزة وفريدة عن التحف والمقتنيات توقع الكثيرين من الميسورين في أفخاخ شرائية لا يخرجون منها إلا ببضع مئات من الدولارات. وللفقراء فرصهم الشرائية أيضاً، ويحصلون على تحف وقطعٍ لا تقل ظاهرياً عن تلك الحقيقية والثمينة وبأسعار رمزية تتناسب وإمكاناتهم المتواضعة يتباهون بها أمام أصدقائهم وأقاربهم بخاصة الساعات والنظارات واللوحات الفنية. حاجة نفسية يقول أستاذ علم النفس في الجامعة اللبنانية الدكتور طلال عتريسي إن «اقتناء الأشياء القديمة ينبع من خلفيتين: الأولى، الرغبة في التميُّز، إذ إن ما هو قديم قد لا يكون موجوداً لدى الآخرين، ويدعم ذلك مسألة تعزيز المكانة الاجتماعية. والثانية، الحاجة، ويمكن اعتبارها مناقضة للأولى، إذ أن مَن يبحث هنا عن المقتنيات القديمة يكون غير قادر على دفع تكاليف الجديدة منها، وهو يخضع لقدراته الاقتصادية، وهنا نصل أيضاً إلى النتيجة نفسها أي الموقع الاجتماعي». ويضيف: «كذلك هناك أسباب أخرى لاقتناء القديم، أبرزها عدم الثقة بالحديث بخاصة في ما يتعلق بسلع كالتحف والمفروشات، فالقديم معروف لدى الناس بالمتانة. وبالطبع لا يمكن إغفال جانب نفسي آخر، فبعض الناس يرغبون في اقتناء القديم في رغبة للتواصل مع ذاكرة ثقافية أكثر انسجاماً مع عاداتهم وتقاليدهم. وسمة العالم اليوم هي السرعة في التغير، ويفرض ذلك على الإنسان عدم التعلق بمقتنياته. وهذا متعب على المستوى النفسي ويعزز التوتر (stress)، مرض العصر، والقديم يوحي بأنه أكثر ثباتاً واستقراراً، وبالتالي يسمح للإنسان بنسج علاقة اكثر انسجاماً ورسوخاً مع مقتنياته». وفي هذه الأسواق، مكان للمواقف السياسية، أيضاً، مثلاً حين اشترى شاب صورة قديمة لأحد رؤساء الجمهورية ببضعة دولارات، رآها صديق له، ولم يستطيع إلا أن يعبّر عن موقف تجاه هذا الرئيس، فيعتب بسخرية على المشتري قائلاً: «أن هذا الرئيس لا يستحق أكثر من دولار واحد». وفي الأسواق نفسها قد يجد كارل ماركس ضالته، حيث الناس بمختلف مستوياتهم يتلاقون في مهرجان أسبوعي يختصر مجتمعاً تتسع الفجوة بين طبقاته كل يوم.