سجلت «المقاهي» العربية الشهيرة في القاهرة وتونس والمغرب ودمشق وبيروت وبغداد ذاكرة أجيال متعاقبة، ودوّنت سجالات فكرية وأدبية، لتشكل رافداً كبيراً لتاريخ المكان ومرتاديه. «الحياة» طرحت تساؤلات حول افتقار المشهد الثقافي السعودي إلى دور المقاهي التي تجمع المثقفين والأدباء في ملتقيات متاحة بخلاف المؤسسات المختصة، وتكون حاضنة لتساؤلاتهم وتطلعاتهم اليومية وغير المدوّنة عادة والطليقة لتجاذبات الآخرين، ويكون من شأنه إثراء المشهد وتعزيز ذاكرة المكان والإنسان، فلماذا تغيب المقاهي الثقافية عن المجتمع السعودي؟ وهناك من يتغنى بجيل كانت له طباع معايشة المجتمع في الشارع واللقاء بهم في مقاهي عرفت قبل عقود من الزمن، لكن هذه الذاكرة سُجلت على خجل، كما هي الحال في الحجاز مثلاً. كيف يمكن تقويم تلك التجربة؟ وما الذي جعلها تخبو تماماً؟ هنا شهادات حول المقاهي وغيابها لعدد من الكتاب: سعيد السريحي: الريبة من ثقافة الهامش «المقاهي.. الريبة من ثقافة الهامش»: يرتبط ازدهار الدور الثقافي للمقاهي بنمو ثقافة الهامش، أو على نحو أدق نمو الثقافة المهمشة، ولذلك يظل نمو دورها مرتبطاً بنمو دور المؤسسات الثقافية الرسمية من ناحية وتقبل هذه المؤسسات، بل والمؤسسات الأمنية كذلك الثقافة التي تتبلور من خلال المقاهي، التي توشك أن تكون ثقافة معارضة أو ثقافة مختلفة على أقل تقدير. من دون ثقافة مركزية تنهض بها المؤسسات لا يمكن أن تتبلور ثقافة للهامش، قيام المركز شرط وجودي لظهور الهامش، فلا هامش حيث لا يوجد مركز، أو حيث يكون أداء المركز هامشياً، وإذا ما تبيّن لنا ذلك تبيّن لنا ضعف الدور الذي تنهض به المقاهي لدينا، ذلك أنه ضعف مرتبط بضعف أداء المركز، أو تذبذب هذا الأداء، أو إن تحرينا شيئاً من الدقة حداثة أداء المؤسسات الثقافية وعجزها عن بلورة ما يمكن أن يشكل تيارات ثقافية عامة تستفز أو تستثير الهامش كي يسعى إلى تأسيس ثقافة بديلة من خلال المقاهي أو من خلال روابط الكتاب واتحاداتهم. غير أن ذلك وحده لا يكفي لتفسير غياب الدور الذي يمكن أن تنهض به المقاهي في تحريك الثقافة، فالتجارب التي مرت بها المقاهي الثقافية لدينا، ومنها على سبيل المثال «مقهى جسور» و«مقهى الكتاب»، أكدت أن ثمة تخوفاً من الثقافة التي يمكن أن تكرسها هذه المقاهي، وعلى رغم أن هذا التخوف لا يجد ما يبرره إلا أنه كان كفيلاً بإغلاق هذه المقاهي، وذلك ما يؤكد أن الموقف من الثقافة موقف ريبة، ما يجعلها واقعة تحت هيمنة المراقبة الدائمة عبر المؤسسات الرسمية، ولا يسمح لها بالظهور خارج هذه المؤسسات التي لا تخضع برامجها للمراقبة. ولنا بعد ذلك كله أن نجد لضعف دور المقاهي سبباً آخر يتمثل في تلك النظرة الدونية التي يتم النظر إلى المقاهي من خلالها، خصوصاً من القادمين من الأرياف والبوادي، ولذلك ظل ارتيادها حتى وقت قريب محصوراً على فئات شعبية محددة لا تكاد توجد صلة بينها وبين الثقافة، ولم تتمكن المقاهي من تصحيح النظرة إليها إلا في وقت متأخر وفي إطار محدود، وحين حاولت أن تنهض بالدور الثقافي ووجهت بالتوجس الذي حال بينها وبين أن تلعب الدور الذي لعبته مقاهٍ مماثلة في مدن عربية أخرى. محمود تراوري: توارت كطقس اجتماعي أتصور أنه علينا ونحن نتناول إزاحة المقهى كثقافة، ألا نتغافل عن تواريها كطقس اجتماعي بشكل عام، فانفلات معيار الحراك الاجتماعي إلى ما هو استهلاكي / مسطح بشكل صرف، وصم حالنا المحلية منذ نهايات السبعينات الميلادية تقريباً، حيث الوفرة المالية، وارتباك الرؤية في التخطيط، وهذا الأخير لم تحكمه بعض الخصائص الثقافية مثل قوة العادات والتقاليد التي تمنع الريفي كقيم من أن يكون هو المهيمن، وهذا بالضبط ما عانت منه كبريات المدن العربية التي تريّفت نتيجة الهجرات الكبيرة إليها، وهو ما تداخل أيضاً مع تقاصي الطبقة الوسطى في ظل اقتصاد السوق غير المتوازن، وصعود النفس الاستهلاكي بنهم بحثاً عن فرص الحياة لتحقيق أكبر تراكم مادي، وهو ما يغيّب بالضرورة أي هم ثقافي سواء أكان عبر المقهى أم حتى المؤسسة المعنية بإنتاج الثقافة، بمعنى أن فضاء المدينة الحداثي المؤسس على احترام النظام والتقاليد المدنية شهد اختراقات مكثفة منها ما هو آيديولوجي، ومنها ما هو غير ذلك، ما أفضى في النهاية إلى اختلال في مسيرة المجتمع المدني الذي كانت مدننا متجهة إليه بجمال خلاق قبل انتكاستها مع نهايات السبعينات. ففي مدينتي العظيمة مكةالمكرمة، شهدت في طفولتي كيف كان المقهى مفعماً بالحيوية، مولعاً بالبهجة يفيض بالدانات والصهبة، التي كانت بمثابة استراحة لأرواح تقتعد تلك المقاهي بكراسيها المصنوعة من خشب وألياف نباتية، صمدت كثيراً حيال وطأة شمس مكة. غناء المقاهي الذي كان سائداً كملمح من أشد ملامح الحياة المكية ضراوة طوال حقب التاريخ حتى نهايات السبعينات من القرن ال20 تقريباً، يمثل درباً من أهم الدروب التي مشتها الحال الثقافية في الحجاز، قبل أن تتريف المدن، ويعلو صوت المال والعقار والرؤى الضيقة التي لا تحتفل بالحياة. حياة كانت تمنحها المقاهي وامتدت لأنحاء مكة كلها وما حولها من مدن، مستمدة واقع مقاهيها من إرث إنساني كوني واحد يتنوع مضمونه على هامش ثقافة البلد/ المكان. إذ لا يمكن القول أبداً إن «المقهى» يمثل ثقافة مكية أو حجازية، لأن المقهى ببساطة فكرة إنسانية محضة، تعرفها كل المجتمعات والثقافات التي تطوعها وتشكلها طبقاً لما يتوازى مع مكونات الوعي والتفكير وطبيعة القيم الموجودة فيها. فالمقهى جزء حيوي من فسيفساء الحياة في المجتمع، وربما يصفه البعض بأنه مظهر من مظاهر مدنية المجتمع، على نحو ما رصده المؤرخ المكي محمد طاهر الكردي حين يقول: «حاجة الإنسان ماسة إلى الجلوس في المجتمعات العامة كالقهاوي، لما فيها من أسباب راحته من الطعام والشراب وأنواع المسليات؛ فالقهاوي هي بمثابة النوادي العامة يقصدها الإنسان للاستجمام والراحة هرباً من متاعب البيوت والمنازل. فوجود القهاوي أمر ضروري، يأوي إليها الناس خصوصاً طبقات العمال والصناع». مقاهٍ كثيرة كانت تعتبر في أطراف مكة حينها، ويرتادها نفر من المتعلمين، والمثقفين، ومن أهم هذه المقاهي في مكة «قهوة عبدالحي» في المسفلة التي يرتادها كبار مثقفي المدينة المقدسة، و«قهوة الشربيني» في العزيزية التي ذاع صيتها مطلع الثمانينات الميلادية، إذ ضمت مركازاً أسسه الصحافي حينها الدكتور إبراهيم الدعيلج، وكان يجتمع فيه صحافيو وكتاب مكة شبه يومياً، وبالمقابل، كانت «قهوة الدروبي» في جدة، التي أسس فيها الصحافي علي خالد الغامدي مركازاً، ملاذاً لمعظم صحافيي عروس البحر الأحمر (جدة)، ومنهم الكاتب محمد صادق دياب - رحمه الله - الذي أورد في كتابه «جدة»، أن «المقاهي حظيت قبل شيوع المذياع والتلفزيون بنوعية خاصة من الزبائن يؤثِرون الاستماع إلى قصص عنترة بن شداد والزير سالم وأبوزيد الهلالي يقصها عليهم قارئ السيرة، إذ اعتادوا أن يتحلقوا حوله كل ليلة يقرأ عليهم فصولاً من تلك الروبات، في مقابل قروش بسيطة يجمعها صاحب المقهى من الحضور. ومن أشهر المقاهي التي اشتهرت بقراءة سيرة عنترة قهوة حسنين في جدة. راضي الشمري: دور في الحياة الثقافية والاجتماعية لعبت المقاهي دوراً كبيراً في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية، بل إن هناك مقاهي عالمية تعتبر من العلامات البارزة في المشهد الثقافي، مثل مقهى «سارة برنارد الباريسي» ومقهى «خيخون» في مدريد، ومقهى «الحافة» في المغرب، و«الفيشاوي» في مصر. إن المقهى الشعبي هو الذي يقوم على مفهوم المعايشة الحياتية لا أن تجلس غريباً وسط غرباء، وفيه تتمثل حقيقة نقل الفعل الثقافي من العزلة إلى ما أسميه «الضجيج الهادئ»، وهذه ثقافة المقاهي الحقيقية وما تثيره من أفكار تتحول إلى مشهد بصري يقود المثقف إلى متعة معرفية. أما بالنسبة إلى غياب ثقافة المقاهي في بلادنا، فيعود إلى ثقافة المكان واللامكان، فالمقهى الشعبي من اسمه يعطي دلالة واضحة على مكانه، أي وسط الأحياء الشعبية (وسط نبض الشارع)، في حين أن مقاهينا تسكن في ضواحي المدن وعلى الخطوط السريعة فتبدو غريبة في مكانها وزمانها وأناسها ولغتها المتفحمة! والجلوس فيها ربما يصيبك كمثقف بمتلازمة الاحتراق النفسي، وقد تخرج منها إما بنزلة برد أو اضطراب معوي أو صداع فكري. ثمة مثقف يرى أن مقاهينا خلقت «للحكاواتية»، وهي مكان للمفلسين من العوام، بل هي بئر سفلية بمياه مالحة، لذا هو يتعالى عليها وعلى ثقافتها ويمارس فوقيته التي لا يلائمها إلا ردهات الفنادق العاجية. وثمة مثقف مفتون بالبشر يرى أن المقاهي هي التي فتحت فتحاً روائياً عظيماً للكثير من الكتاب وأجلستهم على كرسي مشرق تحت شمس الإبداع، والأمثلة كثيرة بدءاً من عذوبة ريق قهوة تلك المقاهي. أثير السادة: محطات للتلاقي ربما لم يعرف السعوديون المقاهي، لكنهم في أغلب الأحيان تآلفوا مع صورة الديوانيات كمحطات يومية للتلاقي والحديث، يشعرون بالانسجام والألفة في أماكنهم المغلقة، وهي كمنصات اجتماعية بالغة الحيوية في الحقبة الماضية، لأن ما يجري فيها هو ما يصف مزاج الشارع، بيد أنها لا تحتمل المصائر النخبوية التي يبحث في شأنها الاستطلاع، فأصوات صفارات الحكم يختلط مع أصوات نشرات الأخبار، كما يختلط بتجاذبات متفرقة تتنقل بين السياسي والديني والرياضي. إن الحديث برومانسية عن المقاهي وأدوارها عربياً لا يمكن أن ينسحب على الواقع السعودي، فالمقاهي وصلت متأخرة، وتشابكت مع رغبات الجيل الشاب الذي يمثل النسبة الكبرى من المركب الاجتماعي السعودي، وهي رغبات منذورة للترفيه والتخلص من ضغوط الحياة اليومية. اليوم كل شيء يدفع الناس باتجاه عزلة الجدران، وإلى أشكلة عنوان الثقافة، حتى وسائل التواصل الإلكترونية تترجم خارج الشبكة إلى لحظات متأزمة من العلاقة بالذات والآخر، وإلى تمييع لصورة الثقافة الجادة، ومشهد التردي العربي ضرب كل أسس التفكير لدى الإنسان المحلي، حتى بات لا يمارس حريته إلا في تجريف معاني العيش المشترك، والتجاوز على كل معطيات التطور الحضاري التي بلغها العالم اليوم، لذلك لا تستطيع كل محاولات الغزل بروح المقهى ثقافياً واجتماعياً أن تقدم رافعة روحية لهذا الواقع، ولا أن تستعيد ذاكرة الجيل القديم من المقاهي، فكما تحول الفرد تحولت المقاهي وصورها عربياً.