الغارات الأمريكية مستمرة لإسقاط الحوثيين    الصين للرئيس الأوكراني: لا مقاتلين في صفوف القوات الروسية    الكوليرا تحصد الأرواح في جنوب السودان    2900 مستفيد من برنامج «سفراء المحمية»    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبدالله بن مساعد آل عبدالرحمن    ولي العهد يتلقى اتصالًا هاتفيًا من رئيس وزراء بريطانيا    أكثر من 500 إعلامي في "جولة الرياض" للجياد العربية    مدير تعليم الطائف يشدد على تكامل الأدوار بين المدرسة والأسرة    سلمان بن سلطان يطلع على أعمال الأحوال المدنية    ضبط شخصين في جازان لترويجهما (11.7) كلجم من مادة الحشيش المخدر    فنون جدة تنظم زيارة لمعرض "في محبة خالد الفيصل"    "معهد اللغة العربية" يطلق برنامجاً تدريبياً لطلبة تايلند    أمير نجران يستعرض تقرير «إعمار»    استعراض نتائج خطط الجهات الأمنية أمام مُحافظ جدة    خام برنت يقفز 4% ويصل إلى نحو 66 دولاراً للبرميل    أمير منطقة ⁧‫جازان‬⁩ يستقبل سها دغريري بمناسبة فوزها بجائزة جازان‬⁩ للتفوق والإبداع    ماكرون: فرنسا قد تعترف بدولة فلسطين في يونيو    كأس الطائرة تنتظر الضلع الرابع    527 إنذارا لمحلات غذائية مخالفة بالقطيف    أمير منطقة تبوك يستقبل المستشار للسلامة المرورية بالمنطقة    الأمير سعود بن نهار يستقبل مدير إدارة المخدرات بمحافظة الطائف    سطوة المترهلين في الإدارة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تحتفي بولادة أول ظبي رملي لموسم ربيع 2025    تألّق سعودي في صربيا.. ذهبية وبرونزيتان لأبطال التايكوندو    وزارة الخزانة الأميركية تفرض عقوبات جديدة على إيران    89 % نمو تراخيص مرافق الضيافة السياحية في 2024    أمير حائل يستقبل رئيس الهيئة العليا للحج والعمرة بجمهورية العراق ووزير الحج والعمرة    أمانة الشرقية تبدأ أعمال الصيانة لطريق الظهران – بقيق السبت المقبل    "ڤايبز العُلا" يعلن بدء التسجيل في معسكر رواد العُلا للحِرفيين    وفد سعودي يستعرض تجربة المملكة في سلامة المنتجات مع المصنعين والمصدرين في سنغافورة    مهرجان كلنا الخفجي يستقطب أكثر من 52 ألف زائر خلال أيامه الاولى    "الرياض آرت" يثري المشهد الفني ضمن أسبوع فنّ الرياض    غوتيريش يؤكد إعاقة إسرائيل وصول المساعدات إلى قطاع غزة    الفوتوغرافي السعودي محمد محتسب يُتوَّج بلقب ZEUS    "الفطرية": ولادة خمس غزلان ريم في" الواحة العالمية"    «القمر الدموي».. خسوف كلي يُشاهد من معظم القارات    أمير المدينة المنورة يستقبل قائد قوات أمن المنشآت بالمنطقة    وزير الدفاع ونظيره العراقي يبحثان تعزيز التعاون العسكري    في إنجاز عالمي جديد يضاف لسجل تفوقها.. السعودية تتصدر مؤشر تمكين المرأة في مجال الذكاء الاصطناعي    في ذهاب نصف نهائي أبطال آسيا 2.. التعاون يهزم الشارقة الإماراتي ويضع قدماً في النهائي    في ذهاب ربع نهائي دوري أبطال أوروبا.. برشلونة يواجه دورتموند.. وباريس يخشى مفاجآت أستون فيلا    في الجولة 28 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والعدالة في ضيافة الجندل    "الموارد": "الفرع الافتراضي" خفض الزيارات الحضورية 93 %    تريليون ريال أصول مدارة    هواتف بلا "واتساب" في مايو المقبل    القاذفات الشبحية تدخل المعركة لتدمير المخابئ والكهوف.. التصعيد الأمريكي يعزز فرص «الشرعية» للتحرك ضد الحوثيين    هدوء رونالدو وحماس بنزيما.. الهلال في مهب الريح    جازان تودّع شيخ قبيلة النجامية بحزن عميق    أمير جازان يرأس اجتماع لجنة الدفاع المدني الرئيسية بالمنطقة    صحيفة الرأي توقّع عقد شراكة مع نادي الثقافة والفنون    إنجاز طبي سعودي.. استئصال ورم في الجمجمة بالمنظار    تقلب المزاج.. الوراثة سبب والاتزان النفسي علاج    ملتقى ومعرض المنصات المالية الذكية iPExpo2025    سلوكيات بريئة تشكك بالخيانة    التصوير بالرنين المغناطيسي يضر الجسم    عودة الذئب الرهيب بعد 10000 عام    الشعور بالجوع يعيد تشكيل الخلايا المناعية    النقل الإسعافي يستقبل 5 آلاف بلاغ بالمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ولادة التحقيق الجنائي والرواية البوليسية والجاسوسية من رحم الدولة - الأمة
نشر في الحياة يوم 07 - 03 - 2012

تزامن بروز التحقيق مع بزوغ الرواية البوليسية والرواية الجاسوسية والعلوم الاجتماعية والبارانويا (الارتياب المرضي أو الذُهان) نهاية القرن التاسع عشر، مع هيمنة الدولة على الواقع. فاللغز والمؤامرة وثيقا الصلة بأحوال المجتمعات الغربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وبروز التحقيق البوليسي الحديث ولد من رحم مشاعر قلق إزاء العالم. وهذه المرحلة، ما بين القرنين، هي مرحلة بدء غلبة الدولة – الامة ورسوخها. والدولة – الأمة ترمي، من طريق العلم والعلوم الاجتماعية، الى إرساء واقع مستقر في اقليم محدد يحتكم اليه شعب معين، أي الى بناء الواقع، والبت في الامور الملتبسة.
فالواقع هو بناء يستند الى انتخاب عناصر تدرج في سياق محدد مسبقاً. وتبرز الحاجة الى التحقيق حين يتعثر إرساء الواقع، وحين تبقى تساؤلات الناس من غير إجابات. ففي الاحوال المستقرة والسائرة لا حاجة الى التحقيق وعجلة الامور «تدور من تلقاء نفسها».
التحقيق يدور على شيئين مختلفين، أولهما «الوقائع»: هل كان فلان في المكان الفلاني في الساعة الفلانية أو في المبنى المنهار؟ فالتحقيق يتناول البيئة المكانية – الزمنية للأوضاع والاشخاص، لكنه لا يجيب عن معنى هذه المؤشرات. وثانيهما تبيان معنى ما حدث، أي امكان صوغ تسلسل سببي وتتبعه من أجل تحميل مسؤولية ما حصل الى «هيئة» ما، قد تكون شخصاً أو مجموعة.
والمقارنة بين أدب الرواية الفرنسية وأدب الرواية البريطانية تسمح بإثبات الصلة بين الدولة – الامة وولادة الرواية البوليسية. ويفترض كذلك أن تبرز المقارنة اختلاف النوع الادبي وفق اختلاف شكل الدولة التي ظهر فيها.
وحلل باحثون كثر شخصية المحقق الانكليزي الروائي شارلوك هولمز، ومنهم الكاتب امبرتو إيكو وكالو جينزبورغ. فهولمز، شأن المجرمين الذين يلاحقهم، يجيد الحسابات المعقدة. والرواية تدور في عالم اجتماعي متناغم، العالم الليبرالي الذي اتسمت به انكلترا في تلك المرحلة. وهو عالم لا تتواجه فيه الطبقة الغالبة، الارستوقراطية، مع الطبقة البورجوازية. والطبقات الاجتماعية حاضرة في الرواية حضور العوامل الطبيعية، والتوازن الاجتماعي هو توازن الحسابات. أما الدولة فلا تتدخل إلا حين يخطئ أحدهم الحساب ويخل بالتناغم وينتهك قواعده.
وفرنسا في مرآة روايات جورج سيمنون وبطله ميغري مختلفة عن العالم الانكليزي في مرآة روايات السير آرثر كونن دويل وبطله هولمز. فهي بلد تنهشه حرب أهلية «فاترة» وغير محتدمة الفصول منذ 1792، على رغم احتدامها في بعض الاوقات على نحو ما حصل في 1848. والتوتر غالب على العلاقات بين الطبقات الاجتماعية الفرنسية في عالم غير ليبرالي. وفرنسا في مرآة البطل ميغري هي بوتقة من الامكنة والاوساط الاجتماعية المختلفة التي يرفع كل منها لواء قيمه الخاصة. والادارة الحكومية لا تتدخل إلا حين تقع جريمة. فالمحققان البريطاني والفرنسي يحيلان القارئ على عالمين اجتماعيين مختلفين. وهولمز يتوسل علم اجتماع يهتدي بالمؤشرات الاحصائية، ويميل الى البراغماتية ويركز على تحليل الاوضاع. وعلى خلافه، يتوسل ميغري سوسيولوجيا دوركهايمية (نسبة الى عالم الاجتماع الفرنسي ايميل دوركهايم، ويجوز وسمها بالدوركهايمية – الماركسية في بعض الحالات). فميغري يسلط الضوء على الطبقات الاجتماعية، ولا يبحث عن المؤشرات، ولا يقيم وزناً للحسابات. فهو يلج الاوساط الاجتماعية، ويزج نفسه فيها على نحو ما يفعل عالم اجتماع من المدرسة الفرنسية. ويحاول التفكير مثل المشتبه فيه وأن «يضع نفسه» مكانه.
ابتكار الروايات البوليسية شخصية المحقق يقسم دور التحقيق قسمين، قسم يتولاه الشرطي ممثل الدولة، وغالباً ما يكون أبله أو أخرق لأنه يلتزم القوانين التزاماً يقيد قدراته، والمحقق الهاوي. وهولمز يتقصى لغزاً استعصى على علياء القوم في الدوائر الخاصة. وميغري مزدوج الشخصية، فهو يجمع شق التحقيق الذي يتولاه الشرطي الى (الشق) الآخر الذي يتولاه الهاوي. وثمة جانب نفساني في هذه الروايات. فمن جهة، الشرطي يؤدي مهماته الوظيفية على أكمل وجه، لكنه من جهة أخرى، إنسان لا يستسيغ قطع رأس الناس جزاء لهم.
وفي الروايات البوليسية يستقي القارئ المتعة من اللعب بالحقيقة وإبراز جوانبها وفق موقف الراوي. وعلى خلاف الروايات هذه، وهي تسلط الضوء على التوتر بين الحقيقة في مكان ما (قرية أو فندق) التي تبدو مستقرة وراسخة، وبين حوادث تثير الاضطراب في الاستقرار وتطعن في بداهة حقيقته، ويطاول الاضطراب الدولة ذاتها في الروايات الجاسوسية. فثمة عوامل مجهولة المصدر تتهدد تماسك الدولة. ولا يستثنى أحد من الشبهة في هذه الدولة، ولو شغل منصباً حكومياً رفيعاً. فالاوساط الحكومية ليست في منأى من الجواسيس والمخبرين، ومنذ الحرب العالمية الاولى الى اليوم، صارت الرواية الجاسوسية سند القومية وسند معاداة السامية في بعض الاحوال. ولا يعرف المحقق حق المعرفة متى يغلق التحقيق، وفي أي مرحلة. ويراوده سؤال جوابه عسير: هل الادلة والمؤشرات التي جمعها كافية لختم التحقيق؟ السؤال ذاته يصح في البحث العلمي على نحو ما يصح في التحقيق البوليسي والصحافي والحياة اليومية. وفي معظم الحالات، يبدو استئناف التحقيق، على رغم القرائن «الدامغة»، كأنه يجافي المنطق.
وفي عالم تسري فيه الامور مسرى الحياة اليومية «العادية»، لا يُلجأ الى التحقيق. فعلى سبيل المثل، لا يباشر المرء التحقيق في إذا ما كان الشخص الذي يقف امامه عميلاً لكوريا الشمالية في الاوضاع العادية، أما إذا كان مصاباً بما يسمى الارتياب المرضي، فربما يشتبه في هذا الشخص. وأخبرني ذات يوم عميل استخباراتي سابق أن البارانويا (الارتياب المرضي) هي واحد من وجوه السلوك العادي وغير المرضي في بعض الاوضاع. فحين يلتقي العميل الاستخباراتي اشخاصاً يلفقون الأكاذيب طوال الوقت، تحوم شبهاته حولهم. والعالم غير منقسم الى (اشخاص) طبيعيين يتولون التحقيق الجدّي، ومجانين يتوهمون كل شيء ويبتكرونه (يخترعونه كما يقال في العامية). فبين العالم الطبيعي والمرضي، منطقة رمادية السؤال فيها هو: ما حدود الشك والتحقيق؟
نقطة انطلاق الرواية البوليسية هي وقوع جريمة والعثور على جثة في مكان ما. والتحقيق يبدأ للوقوف على معنى الحادثة هذه (الجريمة) وتوجيه المسؤولية عنها الى شخص أو مجموعة، كما يحصل في المؤامرة.
ورواية كافكا الذائعة الصيت، «المحاكمة»، هي رواية بوليسية «معكوسة» كأن حوادثها تُرى من مرآة. فالرواية لا تنطلق من العثور على جثة، بل تبدأ إثر توجيه تهمة الى شخص اسمه جوزيف كا. والقارئ شأن المتهم يجهل موضوع الجريمة والتهمة. ويسعى كا في المشاركة في التحقيق الذي هو موضوعه. ويتساءل القارئ إذا كان ما يقرأه تصويراً طبياً لحالة مصاب بالارتياب المرضي، شأن «مذكرات مصاب بمرض نفسي» للرئيس شريبر. لكن بطل رواية كافكا ليس ثورياً أو متمرداً بل هو شخص عادي يرغب في عودة الامور الى ما كانت عليه «قبل» الاتهام. ولحظة توجيه الاتهام إليه، يتسلل سم الشك الى كل شيء، وينخر سوسه (الشك) الواقع كله. ولا يبقى ترتيب الاثاث في غرفة كا، في منأى من الشك.
وفي الرواية الجاسوسية، تبرز الدولة عنصراً ثابتاً واضح الحدود تحاصره مجموعات سرية وغامضة. وفي رواية «المحاكمة»، لا تُعرف حدود الدولة: فكل شخص قد يكون جاسوساً أو عميلاً حكومياً. وعلى رغم أنها سيرة تحاكي شكل الروايتين البوليسية والجاسوسية، تحرف «المحاكمة» هذين النوعين الادبيين لإبراز العنف التاريخي، عنف الدولة الذي يؤذن بالعنف الحقيقي الذي ولدته الحرب العالمية الاولى، وتجلى في ثلاثينات القرن العشرين.
* عالم اجتماع فرنسي، عن «ليبيراسيون» الفرنسية، 16/2/2012، اعداد منال نحاس 


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.