يرخي «الربيع العربي» بظلاله على مهرجان «أصوات حية» الذي تشهده مدينة «سيت» في جنوبفرنسا، والذي يجمع أكثر من مئة شاعر من أربع وثلاثين دولة متوسطية، بينها خمس عشرة دولة عربية. هذا المهرجان الشعري المتوسطي بدا معنياً هذه السنة بالثورات العربية التي انطلقت من تونس، فخصها بندوات وأمسيات شعرية ولقاءات، شارك فيها شعراء عرب وأجانب وجمهورٌ يُتوقع أن يقارب هذه السنة خمسة وثلاثين ألفاً طوال المهرجان، وهذا رقمٌ لافت جداً في عالم الشعر. تحتفل مدينة «سيت» الرابضة في قلب المتوسط بهذا المهرجان خلال أيامٍ تسعة وليالٍ تسع، وتفتح أبوابها أمام الشعراء الوافدين من بلدان البحر القديم والعريق، وترحب بهم كأنهم أبناؤها المنسيون. لوحات المهرجان تحتل مداخل المدينة ومخارجها، شوارعها وأحياءها الداخلية، حدائقها وشاطئها الطويل. وعلى اللافتات المرفوعة في الهواء الطلق، كُتبت جمل من قصائد لشعراء، ومنهم شعراء عرب من أجيال عدة. معظم الأمسيات واللقاءات التي تنطلق صباحاً وتمتد حتى ما بعد منتصف الليل، تُقام في الحدائق، تحت الشجر أو داخل خيامٍ نُصبت هنا وهناك، وفي الأزقة الضيقة والساحات، وعلى ضفاف الأقنية البحرية التي تخترق المدينة، مذكّرة ببعض ملامح مدينة البندقية. وبعض القراءات يتم على متن القوارب التي تجول في الأقنية حاملةً الشعراء وجمهورهم معاً. إنه مهرجان الهواء الطلق في مدينةٍ هي شبة جزيرة يتقاسمها البر والبحر، وترتفع على أطرافها ربوات صغيرة راسمةً منحدرات شديدة الجمال واللطافة. ومن هناك يبدو المشهد ساحراً تمتزج فيه زرقة السماء والبحر بخضرة الغابات والحدائق. هذا المشهد خلّده الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري المتحدر من مدينة «سيت» في قصيدة «المقبرة البحرية» إحدى عيون الشعر الفرنسي المعاصر، ويقول مطلعها: «هذا السقف الساكن، حيثما تتنقل اليمائم/ بين الصنوبرات يخفق، بين الضرائح». ووفاءً لهذا الشاعر المتوسطي شُيِد في أعلى المدينة متحف يحمل اسمه. وفي هذه المدينة وُلد أيضاً الشاعر والمغني جورج براسِنس والمسرحي جان فيلار، مؤسس مهرجان «أفينيون» العالمي. في مدينة «سيت» الحائرة بين الأزرق والأخضر، يستعيد الشعراء وجمهورهم المقولة المتوسطية التي يجسدها هذا البحر. يستعيد هؤلاء الشعراء أسطورة المتوسط الضاربة في القدم، التي تجمع بين الحضارات الغابرة، حضارة بلاد ما بين النهرين وحضارة مصر وفينيقيا وأثينا وروما... أسطورة هذا البحر الذي طالما شقت مياهه المراكب والسفن محملةً بحاجات البشر اليومية، ناهيك عن الفنون في شتى تجلياتها. أسطورة هذا البحر الذي شهد أقسى الحروب وأطولها، الحروب التي غزت مخيلة الشعراء وغذت ملاحمهم. يلتقي شعراء البحر المتوسط هنا في هذه المدينة، يقرأون معاً كل بلغته، يتناقشون، يتفقون أو يختلفون. قصائدهم بجذورها المتعددة هي أجمل فسحة للقاء والتلاقي، وأصواتهم التي ترتفع في الهواء تتخطى الحدود التي باعدت بينهم طوال حقبات. ولعل المختارات الشعرية التي صدرت في كتابٍ ضخم يضم قصائد للشعراء جميعاً، تمثل مرجعاً مهماً لمقاربة المشهد الشعري المتوسطي الراهن. أما الشعراء العرب فحاضرون بشدة بقصائدهم كما بشخصهم، وهم يشعرون فعلاً بأنهم ينتمون إلى هذا المناخ المتوسطي وإن أتوا من الخليج البعيد، من قطر والإمارات والسعودية وعُمان وسواها.