إنّه الفضول. وللفضول عضلةٌ مفتولةٌ، دائماً ما تأخذ بخناقي. وقتها، إمّا أن أفتُل شاربي بالدمع، أيأسُ وأتناقصُ، وإمّا أن يمتلئ جسدي بالشّرَر، فأركض حتى يحُل خناقي – قليلاً- فأصعد. قالَ لي – الفضول - يوماً: ما هو مشروع محمد العلي الفكري؟ ماذا قدّم حتى يصير من آباء الحركة الحداثية في السعودية؟ وأين هي الكتابات التي ساهم بها في التأسيس الثقافي وتنوير القارئ العربي؟ إنه سؤالٌ وحشٌ، لم تكن الإجابات المحيطة به سوى أحاديث وحكايات وقُصاصات من المجايلين والأصدقاء، إنها الضباب نفسه «أعرفُ أن هناك أسلحةً لحَرب الوحوش، لكن كيف أهزم ضباباً؟». حينها، بدأتُ محاولتي الأولى لهزم الضباب؛ قلتُ أبدأُ من جريدة اليوم لعلمي أن العلي التزم بالكتابة فيها منذ أواخر الستينيات حتى الآن، ثم انتقل إلى الصحف والمجلات الأخرى. «هجمتُ» على مبنى صحيفة اليوم، وحاولتُ الوصول إلى أرشيفها، لكن قسم الأرشيف أغلق أبوابه أمامي مصوّراً أن ما أريده ضَربٌ من المستحيل، للأسباب التالية: أحتاج إلى موافقة لا وجود لأرشيف قبل عام 1978م. مجلدات الأرشيف تبدأ من 1978م وتنتهي في 2002م.. من سيأتي لي بمجلدات 24 سنة من مستودعات الجريدة إلى مبناها الرئيسي؟ هكذا خرجتُ من المبنى «الجديد» بلا أمل ولا قلب.. حتى تملّكني غضبٌ لا أعرف نبعه، هاجسٌ للمحاولة مرّة أخرى وكأنني أدافعُ عن «حلاوة الروح»! ومنها نجحتُ؛ هاتفتُ الشاعر عبدالله السفر «شكراً جزيلاً»، فاستطاع تحقيق المستحيل الأوّل. فذهبت لقسم الأرشيف، وقابلتُ نفس الأشخاص أصحاب ال«لاءات» الثلاث! وبعد «مفاوضات» توصّلنا إلى أن استعمال سيارتي الشخصيّة للإتيان بعدد من مجلدات الأرشيف مرّة كل أسبوع، بالاستعانة بأحد الموظفين، يحقق المستحيل الثالث. أما الثاني فلم أفلح في تحقيقه (قيل أن أعداد الجريدة كلها محفوظة في مكتبة أرامكو أو مكتبة معهد الإدارة، أو مكتبة الملك فهد.. و لم يُعنّي أحد). ولمدة ثلاثة أشهر، داومتُ في صحيفة اليوم (كنت عاطلاً عن العمل لأكثر من عام) راجعتُ مجلّدات الأرشيف الموجودة، بعضها مفقود، وبعضها مُلقىً على وجهه في المستودع، تخاف على ورقها وحِبرها من اللّمس لكي لا يتلف.. أمّا حكاية الغبار، فلن تستطيع روايتها إلا بالتحدّث إليه، وجعله خليلاً لكي لا يُحاربك ويُغطّي فضاءك. كان هناك في قسم الأرشيف مجموعةٌ من الكراسي تشكّل نصف دائرة، تتوسّطها طاولة. كنت «أحتلُّ» هذا المكان في بحثي وتقليبي للمجلّدات. في يومٍ ما، اختفت الطاولة.. وفي يومٍ آخر اختفت الكراسي وصرتُ تائهاً كالذّبابة؛ أجلسُ على أيِّ شيء وأضع المجلّدات على أي شيء.. وحيناً تختفي مفاتيح المستودع، وحيناً لا يوجد عُمّال لنقل المجلدات من سيارتي الى الطابق الأوّل، وكثيراً كثيراً ما ضُحِكَ عليّ، وسمعتُ ما يُغمَزُ ويُلمَزُ حولي وعني؛ من أنا؟ ولماذا ثيابي مغبرّة دائماً؟ وماذا أفعل بهذه المجلدات العتيقة؟ ولماذا أحملُ كاميرا وأصوّر ما بها؟ ثلاثة أشهر، هربتُ بعدها إلى غير رجعة. الآن، أُكملُ عاماً ونصف من الاشتغال على هذا العمل، جمعتُ ما استطعتُ جمعه من مختلف الصحف والمجلّات، وأبدأ بطرح ما جمعته من صحيفة اليوم في ثلاثة كتب (درس البحر، هموم الضوء، حلقات أولومبية). *** السّلطة، بكل أشكالها، وخاصة المعرفيّة منها، تفرض على المبدع شروطاً كثيرة تحُدُّ من انطلاقه واستمراره، أو ترسم حدوداً للمساحة التي يستطيع الركض فيها. لهذا تمّ تبنّي مبدأ «لا تخاطبهم إلا رمزاً» للهروب من ذاك الحصار. لذا، ستجد أن الإنجاز هنا ليس في أن المبدع استطاع رفع يده بزهرَةٍ فريدةٍ و حسب، بل وأنه سار بها في وَحلٍ لامَسَ الذّقنَ والنّفَس سنين طويلة، ولم تزل في يده نضرة؛ ستعجبُ مما يُلمَحُ، ويومَئُ نحوه، ويُلعَبُ للوصول إليه بحرفيّةٍ عالية، باعتبار الزمن الذي كُتب فيه والنسق الثقافي الملازم لذلك. وقد وجدتُ نفسي بعد قراءتي لهذه المجموعة لأكثر من سبع مرّات، انتقاءً وتوزيعاً وطباعة، لا أقرأ عمنا العلي وحده، بل مرحلة ثقافيّة بكل همومها وتطلعاتها، فكريّاً وجماليّاً. *** عندما أعطيته الكتب ليراجعها، قال لي – بمعنى الكلام- إن هذا كله «ذاكرة»، وان أمامه خَطوٌ كثيرٌ زاده ألقاً الربيع العربي، لم يُقدم عليه بعد. قلتُ لنفسي: إذن، هذا هو الدرس. إنه التجاوز، البحث الدائم والسعي للإضافة، هذا هو المصلُ الذي ستحقنك به هذه الكتب حتى تصير هذه القيمة وهذا الهدف عفويّاً، عفويّة إجابته عن سؤالي: كانت أوّل قصيدة كتبتها عموديّة، فتحت فيها الباب حين قلت: صدح البابُ فاشربي اللحن يا – أذني واروي به ظماء الأماني». أمّا آخر قصيدة فهي نثرية، أغلقت فيها الباب حين قلتَ له: كنتَ منتشيّاً كصديقٍ للأبديّة، لماذا أصبحتَ أبكم القلب واللسان؟ فقال لي بسرعةٍ: ولماذا الباب؟ هكذا هو إذاً، يتجاوز نفسه بشكلٍ لحظيٍّ، وقد زرع هذه القيمة فيمن حوله ومن قرأه عبر الصحف، إلا أنني أريدها أن تُزرع في جيل، أي أريد لجيلي أن يتجاوز المرحلة الثقافية التي سبقته، والتي يُعتبر هو من ممثليّها الكبار، ولهذا جاء هذا العمل ليساهم في ذلك، إذ انه يزرع قيمة التجاوز نفسها والتي يتولّد عنها تلقائياً سؤال: تجاوز ماذا؟ وهذا هو الهدف. بهذا كله، أظن أنّ هذا العمل يُعطي العلي فرصةً ليُعيد النظر في آرائه بشكل منظم وموضوعي، كما تمنّى ذلك في مقابلةٍ أجرتها معه الإعلامية والكاتبة سكينة المشيخص. *** أعترفُ أنني اشتغلت هذه الكتب – بدئيّاً- لنفسي، لكي أقرأ هذا النهر الجوفي وأعيه حقّاً، لكي يكون شارع انطلاقٍ وتحليق، لا سجن تقليد. فعلته لحُبّي. وأنا هكذا، لا أعرف أن ابتاع هديّةً لأحد، وإنما أبتاعها لنفسي، وبعد شعورٍ ما غريبٍ، أُهديها. و إلى هنا، ساقني الحُبُّ. هُنا حطّ بي قوسُ قزحٍ تزلّجتُ عليه عاماً ونصف، وما كان لي ذلك إلّا بأبي، الحَجَرُ الكريمُ، عبدالسلام العلي «هل عرفتَ الآن، بعد أن مرّ الخَضِرُ في بيتنا، كيف يكبُرُ طفلٌ في فراشٍ لا يكبُر؟».. ونورس العبدالباقي، زوجتي الّتي «حطّت على كتفي». و إلى هنا، كاتبُ هذه السطور تختفي رويداً قدماه.. يُريدُ أن يختلي بالشِّعر وحسب. .. إنّه الآن يتبخّر. 26/11/2011 * شاعر و كاتب سعودي. - المقال مقدمة لكتابين حول الشاعر محمد العلي، صدرا عن دار طوى.