فيما يواجه العالم العربي صعوبات لإعادة تشكيل مستقبله والخروج من الحرائق والدماء المهدورة في الثورة، تستمر المملكة العربية السعودية، التي تعتبر واحة من الاستقرار، في متابعة أهداف النمو والحداثة والتحوّل الاجتماعي التي حددتها بعزم كبير وإصرار على تحقيق هذه الغايات. وبتوجيه من الرؤية الإستراتيجية التي يتمتع بها حاكمها الإصلاحي الملك عبد الله بن عبد العزيز، تبدو المملكة المستفيد الأكبر من الربيع العربي، فيما يبدو حجم التناقضات كبيراً بين التقدّم المضطرد في السعودية، وبين الاضطرابات والاهتزازات التي شهدتها دول كمصر وتونس وليبيا واليمن، ناهيك عن الحرب الدائرة بين أبناء سورية. وتجدر الملاحظة أن المملكة، بصفتها مركز نفوذ العالم العربي، لا يمكنها تجاهل الأحداث الدراماتيكية خلف حدودها، إلاّ أنّ كبرى أولوياتها قد تبدو محلية. وتوفّر زيارة إلى الرياض، بمناسبة مهرجان الجنادرية -وهو مهرجان التراث والثقافة الذي ينظّمه الحرس الوطني السعودي للسنة السابعة والعشرين على التوالي- لمحة عما تسعى البلاد لتحقيقه على الصعيد المحلي، فضلاً عن المشاكل التي تواجه سياستها الخارجية. ومن وجهة نظر مختصرة محضة، يمكن القول إن المملكة تحاول الانتقال من اقتصاد يعتمد على النفط إلى اقتصاد يستند إلى المعرفة. ومن أجل تمكين شعبها بأكثريته الشابة، وإعداده للمهام التي ترتقبه، تُبذل جهود هائلة في مجال التعليم، وخصوصاً العلوم والتكنولوجيا. منذ ست سنوات، كانت المملكة تضم ست جامعات، واليوم يبلغ عددها 27، ويدخل بعضها في عداد المؤسسات البالغة الحداثة. وتتوزع هذه المؤسسات على أرجاء البلاد، مستقطبةً أعداداً هائلة من الطلاب، بموجب ما أطلِقَت عليه تسمية «الخطة الوطنية الشاملة للعلوم والتقنية والابتكار». وفضلاً عن التركيز على التعليم العالي النوعية في السعودية، يُتابع 150 ألف سعودي تعليمهم في الخارج -بما يشمل 40 ألف طالب في الولاياتالمتحدة، و16 ألفاً في المملكة المتحدة، وألف طالب في الصين-، حتى أن أحد أحفاد الملك بنفسه يدرس في الصين، في إشارة إلى الرؤية الاستراتيجية التي يعتمدها. وبهدف مواجهة تكاثر الجيل الشاب، أُطلِقت إصلاحات تهدف إلى جعل الاقتصاد منفتحاً، من أجل تشجيع القطاع الخاص واستحداث الوظائف. ويقوم أحد أهم جوانب خطة الملك عبدالله على دفع النساء الى الأمام. وما من إشارة أكبر على ذلك من الحرم العملاق ل «جامعة الأميرة نورة للنساء»، الذي يمتد لكيلومترات طويلة على طول طريق المطار، وتتصل مبانيه الفخمة بعضها ببعض عن طريق شبكة خطوط حديدية فوق الارض وتحتها. وستفتح الجامعة أبوابها للطالبات في السنة الدراسية القادمة. وتجدر الملاحظة أنّ نساءً سعوديات –يشملن خصوصاً أعداداً كبيرة ومتزايدة من المثقفات ثقافة عالية– بدأن يخرجن من خلف الأغطية فوق وجوههن، حيث بقين محتجزات لوقت طويل جداً، وكانت لهن مداخلات ناشطة خلال ندوات النقاش في مهرجان «الجنادرية» الأسبوع الماضي. وبالفعل، ادارت سيدة سعودية إحدى الجلسات التي تناولت موضوع علاقة المثقفين بالسلطة، وأجرت مندوبات القنوات التلفزيونية مقابلات مع الزائرين، كما أولم الملك عبدالله على شرف نحو 300 زائر لمهرجان الجنادرية، بحضور حشد من النساء كانت لهنّ طاولة خاصة في قاعة الاستقبال الكبرى. غير أن المملكة لا تستطيع تجاهل الاضطرابات الإقليمية، وتشكل الأزمة في سورية مصدر قلق خاص لها، بسبب قدرة هذه الأزمة على زعزعة استقرار المنطقة برمّتها، وخصوصاً في الأردن ولبنان. وتجدر الإشارة إلى أن الصدع الحاصل بين المملكة العربية السعودية والرئيس بشار الأسد، وتنديد السعودية بالقمع العنيف الذي يعتمده ضد الشعب السوري، يلقيان بثقلهما بوضوح، بسبب العلاقات الوثيقة التي كانت تربط المملكة لمدى ربع قرن مع والد بشار، الرئيس حافظ الأسد، وذلك حتى وفاته في العام 2000. ولا شك في أن الملك عبد الله يشعر بالذهول إزاء استمرار القتل في سورية، وقد خاب ظنه إلى حد كبير بالرئيس السوري. وقد أوضح في خطابه، القصير إنما القوي النبرة، الذي ألقاه خلال الوليمة المذكورة أعلاه، أنه يندد بحق النقض الذي استعملته روسيا والصين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 4 شباط (فبراير) الماضي، والذي نجح في إجهاض خطة للجامعة العربية ترمي إلى تحقيق انتقال سلمي للسلطة في دمشق. ولكن بقدر ما يمكن المرء أن يستنتج، فإن الملك عبدالله –وبعكس قادة دول خليجية اخرى– لا يحبذ تسليح المعارضة السورية، حيث إن ذلك لن يوصل إلا إلى سفك المزيد من الدماء، كما أنه لا يوافق على الدعوة الى «لجهاد» المسلح ضد النظام السوري، التي أطلقها «الإخوان المسلمون» في الأردن، وخصوصاً دعوة أيمن الظواهري الذي تزعّم تنظيم «القاعدة» بعد موت أسامة بن لادن. ومن الضروري التذكّر ان الملك عبدالله اطلق حملته الخاصة البالغة الذكاء ومن دون اللجوء الى القمع، ضد تنظيم «القاعدة»، وتمكن من هزيمة هذا التنظيم من خلال تقديم صورة لشعبه لحقيقة قيم ومبادئ الدين الاسلامي. ويبدو أن مراكز مكافحة التطرف في أرجاء السعودية أبلت بلاءً حسناً. وتتسبب الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمشكلة كبيرة أخرى في مجال السياسة الخارجية بالنسبة إلى الدبلوماسية السعودية. ولا شك في ان الملك عبدالله يتطلع إلى القيادة الإيرانية بالكثير من الارتياب. ويلقي بعض كبار المسؤولين السعوديين على طهران مسؤولية تشجيع افكار التمرد في أوساط المجتمعات الشيعية في البحرين وشمال اليمن، وحتى في المنطقة الشرقية داخل المملكة العربية السعودية. وقد نشرت الصحافة السعودية تقارير في الأيام الأخيرة عن حصول اشتباكات مسلحة في محافظة القطيف بين قوى الأمن و»أشخاص مقنّعين»، ما تسبب بمقتل وجرح عدد من الأشخاص. ولكن هناك أيضاً مفهوم سائد في الأوساط السعودية، يفيد بأن إيران هي الجار الذي يتوجّب ترتيب الأمور معه. ويبدو أن العقوبات المعوّقة التي فرضتها الولاياتالمتحدة وأوروبا على إيران، بضغط من إسرائيل، تحظى بتأييد قليل جداً داخل المملكة. ويفضّل سعوديون كثيرون ان تكون إيران شريكاً محتملاً، بدلاً من اعتبارها عدواً، وهذا ما دار حوله احد النقاشات في مهرجان الجنادرية لهذا العام. وهناك إقرار كامل لواقع يفيد بأن حرباً بين إيرانوالولاياتالمتحدة، أو بين إيران وإسرائيل، قد تشكّل كارثة لدول الخليج العربي التي قد تجد نفسها في مرمى النيران. ولعل العلاقات مع الولاياتالمتحدة تشكّل أكبر أحجية على الإطلاق في نظر الأسرة الحاكمة في المملكة العربية السعودية. وقد عرّض الدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل واستمرار قمعها الفلسطينيين، التحالفَ السعودي الأميركي للكثير من التوتّر. وفي ظل رغبة القيادة السعودية في ان تعبر حكومتها عن المزاج الشعبي، لا يمكنها تجاهل الشعور الكبير بالعداء إزاء إسرائيل في معظم الأوساط الشعبية. وبفضل الموارد الشاسعة والتطوير الحيوي والقيادة الحكيمة، برزت المملكة العربية السعودية كمركز للاستقرار في عالم عربي تقوّضه الثورات. ولا شك أبداً في أن هذا الدور ليس سهلاً. * كاتب بريطاني مختص في شؤون الشرق الاوسط