لا شك أن أحداث سوريا وموجة العنف التي اندلعت منذ 15 مارس الماضي عندما بدأت الاحتجاجات في درعا، ثم امتدت إلى سائر المدن السورية، وخلفت أكثر من 2700 قتيل حتى الآن وفق مصادر الأممالمتحدة، لا شك أن تلك الأحداث احتلت أهمية كبرى بالنسبة للعالم، وشكلت اختبارًا لمواقف الدول إزاء ما شهده الشعب السوري من حملات قمع وامتهان لكرامة الإنسان وحقوقه. لكن بعد مرور أكثر من ستة أشهر على اندلاع الثورة السورية، يبدو من الواضح أن تلك الثورة تختلف عن غيرها من ثورات الربيع العربي، لكن يظل القاسم المشترك بين تلك الثورات المعادلة التي أصبحت السمة البارزة والقاسم المشترك بين تلك الثورات: كلما أوغل النظام في الدم كلما اقتربت ساعة رحيله. وهو ما يفرض السؤال: لماذا تختلف الحالة السورية ما دامت تندرج تحت نفس المعادلة؟ «المدينة» تحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال وضع جوانب الاختلاف ضمن سياق الأفعال وردود الأفعال في محورين: محور داخلي يتعلق بالحدث السوري نفسه، ويتعلق بشكل أساس بسلوك النظام وسلوك المعارضة، ومحور خارجي يتعلق بالموقف الإقليمي والموقف الدولي. لكن يمكن القول بشكل عام إن الملف السوري مختلف لجهة تشابك ذلك الملف مع الكثير من الملفات الإقليمية والدولية، ورغم أن تطورات الحدث السوري بكل ما شابه من اتساع في رقعة المواجهة بين النظام والشعب وتزايد عدد الضحايا والمعتقلين من الأبرياء بمن فيهم النساء والشيوخ والأطفال بشكل مطرد، فإن المجتمع الدولي التزم الصمت خلال الأسابيع الأولى من عمليات القمع المبرمجة ضد المحتجين التي شارك فيها الجيش وقوات الأمن والشبيحة، ولم يتفاعل مع تلك العمليات بشكل إيجابي على نحو ما حدث في الثورات العربية الأخرى. فإذا أضفنا أن دول الغرب بكافة تخشى من أن يؤدي رحيل الأسد إلى صعود قوى إسلامية يمكن أن تشكل مخاطر على مصالحها؛ لأمكننا أن ندرك بعض الأسباب وراء هذا الموقف السلبي؛ لأن صعود الإسلاميين إلى الحكم في سوريا تحت مظلة ديمقراطية وانتخابات تعددية قد يعني تحالف «القومي» و»الإسلامي» ضمن مشروع وطني موحد تكون أولوياته تحرير الجولان، الذي ظل النظام الأسدي يحجم عن المطالبة به عندما وضع في أولوياته حماية الحزب الذي يعني حماية النظام. سلوك النظام: حسابات خاطئة! بالطبع لم يكن النظام يتوقع لموجة الاحتجاجات الشعبية العارمة التي اندلعت من درعا لتشمل بعد ذلك سائر المدن السورية أن تصمد أمام آلة القمع السورية التي طبقت سياسة الأرض المحروقة في اقتحامها لمدينة درعا مع بداية اندلاع الاحتجاجات في 15 مارس من العام الجاري بما أعاد إلى ذاكرة الشعب السوري مجزرة حماة عام 1982 التي نفذها النظام في عهد الرئيس حافظ الأسد (والد بشار)، ثم استمرار هذا النهج وتكراره على نطاق أوسع في تلك الثورة منتهزًا فرصة حالة الصمت العربي والدولي التي امتدت لبضعة أسابيع، وكان الرئيس بشار الأسد يعتقد أن العنف المفرط في قمع المتظاهرين من شأنه إرهابهم وإنهاء الاحتجاجات، لكنه فوجئ بصمود الجماهير وشجاعتهم وإصرارهم على الاستمرار في التصدي للقوى الغاشمة مخترقين حواجز الصمت والخوف واليأس، وتمسكهم بسلمية الثورة، وتمسكهم قبل ذلك وبعده بمطلبهم الوحيد: تغيير النظام. وقد حاول النظام في البداية المراوغة عبر خطابات الرئيس الأسد الثلاثة التي حملت وعودًا بوقف تدخل الجيش وعودته إلى ثكناته، ووعودًا أخرى بالإصلاح، لكن أي من تلك الوعود لم ير النور. واعتقد الرئيس الأسد أن الصمت العربي والدولي في بداية الأزمة بمثابة ضوء أخضر للإجهاز على الثورة، تحت وهم أن العديد من القوى الدولية، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة تفضل نظامه تخوفًا من أن يكون البديل نظامًا إسلاميًا متطرفًا، وهو خطأ آخر وقع فيه الأسد، الأمر الذي اتضح مؤخرًا في تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون عندما أعربت عن الاستعداد للتعامل مع أي حكومة جديدة حتى لو كانت إسلامية. المعارضة: صمود حتى النهاية فاجأ صمود الشعب السوري العالم أجمع عندما تصدى بصدور أبنائه العارية لآلة القمع السورية، فيما راهن النظام على دفع الأهالي إلى التحول للمقاومة المسلحة التي تعطيه المبرر لتصعيد القمع، لكن الجماهير السورية بتمسكها بسلمية الثورة أقفلت الطريق أمام النظام. وأحرزت المعارضة السورية نصرًا معنويًا كبيرًا عندما نجحت في توحيد قوى المعارضة تحت لواء مجلس وطني يتحدث باسمها في الداخل والخارج. الموقف الإقليمي قام الأمين العام للجامعة العربية د. نبيل العربي بزيارتين لسوريا في محاولة لتطويق الأزمة، إلا أن وعود الرئيس الأسد له بالإصلاح ووقف قمع الجيش للمحتجين لم تتحقق، بل إن الرئيس الأسد صعد موجة القمع في أعقاب هاتين الزيارتين. وجاء إعلان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في خطاب وجهه في 8/8/2011 إلى سوريا استدعاء السفير السعودي لدى دمشق للتشاور، لافتًا إلى أن ما يجري في سوريا لا يمكن أن تقبل به السعودية. مضيفًا أنه يمكن للقيادة السورية تفعيل إصلاحات شاملة وسريعة، ومؤكدًا على أن نتائج تداعيات أحداث سوريا ليست من الدين ولا القيم ولا الأخلاق. كما شدد في خطابه أيضًا على أن إراقة دماء الأبرياء لأية أسباب أو مبررات لن تجد لها مدخلًا مطمئنًا يستطيع فيه العرب والمسلمون والعالم اجمع أن يروا من خلالها بارقة أمل إلا بتفعيل الحكمة لدى القيادة السورية وتصديها لدورها التاريخي. ورأى الملك عبدالله أن مستقبل سوريا بين خيارين إما الحكمة أو الفوضى، مؤكدًا وقوف المملكة تجاه مسؤولياتها التاريخية نحو أشقائها. وفي سياق متصل استدعت الكويت والبحرين سفيرهما في دمشق للتشاور أيضًا. وعبر بيان دول مجلس التعاون الخليجي في أغسطس الماضي عن قلق دول المجلس البالغ حيال «الاستخدام المفرط للقوة» في سوريا، ورأت أن على المجلس أن يدعو إلى وقف «أعمال التخريب» فيها. تركيا من جهتها وقفت عكس ما كان يتوقعه الرئيس الأسد، فقد أبدى الجار التركي معارضة شديدة للعنف المفرط الذي يمارسه النظام السوري ضد المحتجين، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء التركي أردوغان بالقول: «إن من يقتل شعبه لا يمكن له أن يبقى في النظام والسلطة وأنه لا مكان للأنظمة الديكتاتورية». أما فيما يتعلق بالموقف الإيراني فقد لوحظ منذ بداية الاحتجاجات في سوريا، أن إيران تبنت موقفًا رسميًا اعتبرت فيه ما يجري في سوريا مؤامرة خارجية تدار بأيادٍ داخلية، هدفها النيل من دمشق ومواقفها السياسية. وحتى الآن لا يزال جزء مهم من هذه الرؤية الإيرانية حاضرًا. الموقف الدولي تفاجأت إدارة الرئيس أوباما مثل غيرها من الحكومات باندلاع الاحتجاجات الشعبية في العديد من البلدان العربية، ومن ضمنها سوريا، ولم تتجاوب مع الحدث لا بالشكل المناسب ولا بالسرعة المطلوبة مما جعل الموقف الأمريكي عرضة للتساؤلات المحرجة داخل الولاياتالمتحدة وخارجها..وبدءًا من شهر يونيو الماضي تحول الموقف الأمريكي إلى الحسم من خلال إعلان المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض في 10 يونيو بكل وضوح: «إن الحكومة السورية تقود سوريا باتجاه خطير... نحن نقف إلى جانب الشعب السوري الذي أبدى شجاعته بالمطالبة بالكرامة والانتقال إلى الديمقراطية التي يستحقها». ووصل هذا الموقف مستوى أكبر من خلال تصريح وزير الدفاع الأمريكي بانيتا مؤخرًا بأن سقوط نظام الأسد أصبح مسألة وقت. ويمكن القول بشكل عام إن روسيا والصين، هما من يقفا وراء عجز المجتمع الدولي عن اتخاذ موقف حاسم من الأزمة السورية، فروسيا هي الحليف العسكري غير المباشر لسورية، وهي أهم قاعدة للقوات البحرية الروسية في البحر المتوسط، كما أن سوريا من أهم المشترين للأسلحة الروسية. وهو ما يفسر فشل مشروع قرار إدانة النظام السوري أمس الأول باستخدام روسيا والصين حق الفيتو، بالرغم من تخفيف صيغة مسودة القرار 4 مرات وعدم تضمنه لعقوبات. وكانت فرنسا اتخذت زمام المبادرة في بلورة موقف أوروبي موحد إزاء أحداث سوريا منذ يونيه من هذا العام عندما كانت وراء العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على ثلاث دفعات على النظام السوري. ووصل الموقف الفرنسي إلى حد اعتبار وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه أن نظام الأسد فقد شرعيته وأن وقت الإصلاح فات واصفا فشل الأممالمتحدة في اتخاذ موقف واضح من الأزمة في سوريا بأنه فضيحة. أما الموقف الإسرائيلي فقد بات من الواضح الآن أن القيادة الإسرائيلية، بشقيها: السياسي والعسكري، تتابع باهتمام بالغ ما يجري في المحافظات السورية، خاصة ما يتعلق بأثرها المتوقع على زعزعة استقرار البلاد، ولعل أدل على ذلك ما قام به عدد من القيادات الإسرائيلية يتزعمهم «شمعون بيريز» الرئيس الإسرائيلي، يرافقه عدد من قادة الجيش بزيارة للحدود الشمالية قرب الجولان، وإعلانه أن أي زعزعة داخلية في سوريا، ستخفف عن إسرائيل «جبهة حربية»!. ومن جهة أخرى لا تخفي إسرائيل قلقها من محاولة الأسد الهروب إلى الأمام من خلال افتعال حرب مع إسرائيل، حيث تمتلك سوريا ترسانة أسلحة كبيرة، بما في ذلك الأسلحة الصاروخية، ذات القدرة على ضرب إسرائيل، وإذا وقعت هذه الترسانة العسكرية في يد الإسلاميين، كما ترى تل أبيب، فمن الممكن أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى اندلاع حرب شرق أوسطية كبيرة.