يقال عن المقابر أن ظاهرها الصمت وباطنها لا يعلمه إلا المولى عز وجل، لكن هذا ليس حال مقابر القاهرة التي تعيش وضعاً مختلفاً لا صمت فيه ولا باطن، باعتبارها تحولت مساكن للفقراء ووكراً لكل أنواع الممنوعات. ولا يكفي سكان المقابر أنهم يعيشون فيها، بل يسود فيها خوف ورهبة ليس من القبور والسير وسطها في الظلام، ولكن مما يحدث هنا باستمرار. أطفال ونساء وكبار سن وشباب قاطنون في المقابر، يتقاسمون الخوف من أولئك الذين يجولون ليلاً ويقرعون أبواب المنازل - القبور مسببين الهلع. ومن يطرق الباب هو إما مدمن أو بلطجي من الخارجين على القانون الذين أصبحت المقابر ملاذاً لهم ومأوى بعيداً من القانون. تقول إحدى قاطنات المقابر، وفاء، إنها ولدت فيها وتزوجت ورزقت ثلاثة أطفال: "أعيش مع أفراد أسرتي في هذا المدفن منذ أكثر من 20 عاماً، ونعاني من العديد من المشاكل، همنا أن نعيش حياة كريمة وبعيدة عن هذه القبور التي نسكن فيها، ليس لأنها مليئة بالأرواح التي ترعب نفوسنا ليلاً، بل أيضاً لما نعانيه من وجود مدمني المخدرات الذين يتحول المدفن بوجودهم إلى ملهى ليلي". أم دنيا التي تعيش هنا أيضا منذ زمان طويل، تؤكد أنها تغلق باب "مدفنها" بعد صلاة المغرب خوفاً من المدمنين، مؤكدة أنها مع مطلع كل صباح ترى كمية كبيرة من الحقن الفارغة ملقاة على الأرض بجوار منزلها. الواقع أن المتجول هنا يلاحظ هذه الحقن من دون عناء كبير . ويقول عويس، وهو أحد المسؤولين عن المقابر، إن المنطقة "شديدة الخطورة لأنها تعج بالخارجين على القانون وبائعي المخدرات ومدمنيها إضافة إلى من باعوا ضمائرهم وجعلوا المنطقة وكراً لممارسة الدعارة وتعاطي المخدرات وتخزينها". وتشرح سيدة محمد أنها تعيش في المقابر منذ 40 عاماً إذ تزوجت ومات زوجها وبقيت هي وأبناؤها هنا. وتؤكد أنها لم تغادر ولو لمرة واحدة وأنها تنتظر اليوم الذي ستدفن فيه هنا أيضاً. وتستطرد سيدة باكية: "لا نجد من يسمع معاناتنا أو يقدم لنا أي خدمه إضافة إلى الحياة غير الآدمية التي نعيشها ومدمني المخدرات الذين تعج بهم المنطقه ليلاً ويجعلوننا نغلق بيوتنا علينا ولا نجرؤ على الخروج إلا مع أول ضوء نهار". وتسكن سعاد المقابر منذ 55 سنة وتعيش بمفردها داخل "الحوش"، وتقتات على ما يتركه لها أصحاب الخير من المارة الذين قد يعطفون عليها من وقت لآخر لأنها بلا معيل. وتقول: "يا رب توفر الحكومة فرص عمل للشباب كي يبتعدوا عن المخدرات". وعندما تسير بين القبور تصادف أطفالاً يلعبون وتظهر على وجوههم ملامح البراءة وقد محتها إلى حد كبير ملامح البؤس والشقاء. ياسمين عمرها لا يتجاوز 10 سنوات، تعيش هنا مع والديها كما تقول، وتذهب إلى المدرسة، وعندما تعود منها تتولى رعاية المنزل المكون من غرفة واحدة في حوش يتوسطه مدفن صاحبه. وتقول ياسمين إنها لا تخاف من العفاريت ولا الجن "ولا أي شيء من هذه الأشياء، لكني أخاف من الناس الذين يأتون ليلاً لأنهم بيبقوا سكرانين ويحدثون ضجة كبرى ويطرقون الباب علينا ولذلك فأنا أخاف كثيراً من هؤلاء". يمكن القول اصطلاحاً عمن يعيشون هنا أنهم يعيشون حياتهم بين الأموات، وبذلك يشبهون أشباحاً بملامح حزينة يزينها الهم واليأس من غياب من يعين أو يخفف المعاناة.