رفع بعض المحامين (الإسلاميين المتعصبين دينياً) منذ أسابيع قليلة دعوى أمام القضاء الإداري في مصر، يطالبون فيها بسحب الجنسية عن المصريين المقيمين في إسرائيل المتزوجين من إسرائيليات هم وأولادهم. وقد حكمت محكمة القضاء الإداري بسحب جنسية هؤلاء. فأقام وزير الداخلية ووزير الخارجية المصريان دعوى مضادة أمام المحكمة الإدارية العليا يطالبان فيها بإلغاء ذلك الحكم الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري. ولم تبت المحكمة الإدارية العليا في الأمر بعد. اندلع نقاش ساخن في الحياة السياسية والقانونية والثقافية والمدنية المصرية حول هذا الموضوع الملتبس الشائك، بين مؤيد ومعارض. ونود – مشاركة في هذا السجال الساخن – أن نسوق النقاط السبع التالية: 1- لا ريب أن زواج المصريين من إسرائيليات معضلة كبيرة تستوجب الحل، لكن ليس سحب الجنسية منهم هو الحل الصحي أو الصحيح أو الوطني. 2- نحن ضد الصلح مع إسرائيل قبل الحصول على الحقوق العربية كاملة غير منقوصة. لكن من الناحية الرسمية القانونية يجب أن يعرف رافعو هذه الدعوى المتعسفة بسحب الجنسية عن المصريين المتزوجين من إسرائيليات أن هؤلاء يذهبون إلى دولة بينها وبين دولتهم مصر معاهدة صلح وسلام رسمية. (بل إنهم كانوا يستأذنون السلطات الأمنية المصرية قبل الذهاب إلى إسرائيل وقبل الزواج من إسرائيليات، وكانت هذه السلطات تأذن لهم بذلك). فمن باب أولى: ينبغي على المتشددين رافعي الدعوى، الغيورين على الوطن، أن يرفعوا دعوى سحب الجنسية عن المسؤولين الذين أقاموا هذه المعاهدة وأقاموا هذا الصلح مع «عدو» الوطن! 3- إن سحب الجنسية عن مواطن أمر ليس هيناً ولا صغيراً، بل هو أمر كبير وجلل، وله في القانون الحالات التي تنظمه وتوجبه والجهات المنوط بها ذلك. أما أن نطلب رفع الجنسية عن المواطن بسبب خطأ اجتماعي أو موقف سياسي أو اختلاف فكري، فذلك يعني فتح أبواب الجحيم على مصراعيها، وهو الجحيم الذي يرهن «المواطنة» بالاندراج والموافقة: فتمنح للمثقفين، وتمنع عن المختلفين دينياً أو سياسياً أو فكرياً أو بسبب اللون أو الجنس. وهذا هو «التمييز العنصري» الصراح الذي يناقض الدستور وقوانين حقوق الإنسان، ويناقض القيم الدينية العليا. 4- ذلك يذكرنا بحالتين قريبتين أثيرت فيهما عقوبة سحب الجنسية على المختلف سياسياً، وعلى المختلف فكرياً. الحالة الأولى حينما قررت أو لوحت حكومة صدام حسين في العراق بسحب الجنسية عن الشاعرين العراقيين الكبيرين محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي، في منتصف التسعينات من القرن العشرين. ولم تتراجع الحكومة العراقية عن قرارها أو تهديدها إلا بعد ثورة الرأي العام العربي (والعالمي) الذي أعلن ساعتها أن الشاعرين الكبيرين هما اللذان يمنحان العراق جنسيته العراقية، لا العكس. والثانية منذ عامين حينما رفع بعض المحامين المصريين المتشددين دينياً (هم أنفسهم أصحاب الدعوى الحالية التي نناقشها الآن) دعوى قضائية ضد الدكتورة نوال السعداوي، الكاتبة والمفكرة المصرية المعروفة، مطالبين بسحب الجنسية المصرية عنها بسبب كتاباتها التي يزعمون أنها «تسيء إلى ثوابت الأمة والدين». لكن القضاء المصري رفض الدعوى! 5- من التباسات هذه الحالة، أن معظم الفلسطينيين المقيمين داخل إسرائيل (عرب 48) يحملون الجنسية الإسرائيلية، فإذا تزوج مصري من فلسطينية داخل إسرائيل، ولتكن بنت الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم مثلاً، أو بنت الروائي الفلسطيني الكبير إميل حبيبي مثلاً، أو بنت الشاعر الفلسطيني الكبير توفيق زياد مثلاً) حق عليه عقاب سحب الجنسية! والسؤال هنا: هل مثل هذا العقاب سيكون موجهاً إلى إسرائيل، أم إلى مصر أم إلى فلسطين؟ 6- يغلب على اعتقادي أن رافعي هذه الدعوى ( المحامين المتعصبين دينياً) لا ينطلقون من أرضية «وطنية سياسية»، بل ينطلقون من «أرضية دينية» تنظر للإسرائيليات اللائي يتزوجن مصريين باعتبارهن «يهوديات» عدوات للدين الإسلامي، لا باعتبارهن عدوات «للوطن». إن النظر للصراع العربي – الإسرائيلي بوصفه صراعاً دينياً لا صراعاً وطنياً، هو مرجعية كل الجماعات الدينية المصرية والعربية المتشددة. وهي المرجعية التي تجافي سماحة الدين، الإسلامي نفسه، لأن الإسلام الحق السمح يرى أن أصحاب الديانات السماوية الأخرى (غير الإسلام) هم «أهل كتاب» يؤمنون بالله واليوم الآخر. إن هذا الخلط بين «الدين» و «الوطن» يضر بالاثنين معاً. 7- لم يشغل رافعو الدعوى (وبعض مؤيديهم من النخبة السياسية والثقافية والصحافية) أنفسهم بالدوافع الجذرية التي تضطر هؤلاء المصريين الشباب إلى الذهاب إلى إسرائيل والتزوج من إسرائيليات. إن الجذر الأصيل المسكوت عنه في هذه الحالة الغريبة هو أن هؤلاء الشباب يهربون من القهر الاجتماعي والسياسي والنفسي الذي يعانونه في مصر. يهربون من الفقر والبطالة وانسداد الأفق وانغلاق المستقبل. هذا القهر والمستقبل المقفول هما اللذان يضعفان مفهوم «الهوية الوطنية» عند هؤلاء الشباب، ويدفع بهم إلى الفرار العدمي: بالموت في أحضان الموج على الشواطئ الأوروبية، أو بالموت في أحضان الإسرائيليات. إن كل مهتم بمعالجة هذه المعضلة لا بد أن يتوجه إلى «جذورها العميقة» لا إلى ساحات المحاكم. ولذلك فإن السلوك المسؤول المحترم تجاه هؤلاء الشباب هو «سحب الفقر والقهر والضياع» منهم، لا سحب الجنسية. * كاتب وأديب مصري.