اصطحبني عبدالله الكبير بجولة في أرجاء مصراتة، ورافقني إلى أهم مواقع الحرب-الثورة. فشاهدنا أربع دبابات مدمرة، لم تفلح في تجنّب قصف طائرات حلف شمال الأطلسي، على رغم إخفائها تحت مظلّة سوق الخضار. كما قصدنا متحفاً مستحدثاً لمرحلة الحرب - الثورة، من بين معروضاته قبضة اليد المشهورة التي تحمل طائرة (أميركية)، وقد نقلها متمردون مصراتيون من باب العزيزية في طرابلس غنيمة حرب. وانزعج عبدالله الكبير إزاء أسئلتي لمعرفة أسباب الانفجار المفاجئ للثورة الليبية، وقد حاولت من خلالها معرفة الأسباب الاجتماعية-الاقتصادية. فتوقف فجأة ورمقني بنظرة قائلاً إن الثورة في بلاده مسألة حرية، أكثر منها مسألة مال. والواقع ان الثورة في ليبيا، وفي العالم العربي أجمع، هي مسألة حرية. فطوال عقود، أهان الديكتاتوريون العرب مواطنيهم، وكذبوا عليهم، وابتزوهم وأخافوهم. والأهم أنهم حكموا معتمدين مبدأ القمع الذي لا يسعه إلا أن يفجّر أعمال عنف خارجة عن السيطرة. ولكن، أيضاً الربيع العربي يقوم على أكثر من ذلك، ويعزى إلى الفشل في تطوير الاقتصاد وفي توفير مصادر الرزق الضرورية. وأخبرني كثيرون بأن الشعب الليبي مسالم وصبور على حد سواء، وأنه لم يطلق ثورة ضد العقيد الغريب الأطوار وضد أفكاره وتجاربه الخارجة عن المألوف. إلا أن فساد النظام وانعدام كفاءته في السنوات الأخيرة أثّرا في مصادر أرزاقهم. وتساءل كثيرون لماذا يمضون حياتهم في الفقر متى امتلكوا سبل عيش تحاكي تلك التي تمتلكها الدول الخليجية. اخفاق اقتصادي وتقوم الثورة الليبية، شأنها شأن الثورات العربية ككل، على أمرين، هما عبارة عن فشلين في النظامين السياسي والاقتصادي على حد سواء. إلا أن من الضروري إجراء دراسة عن الإخفاقات الاقتصادية للأنظمة القديمة، وعن الدور الذي أدّته في الثورات. وقد يثير تدقيق من هذا القبيل نقاشاً حول الخيارات الاقتصادية المستقبلية، ستطغى عليه على ما يبدو مخاوف سياسية ذات طابع أكثر إلحاحاً. وفي حين أن الناس في ليبيا يتوقعون تحسناً سريعاً لوضعهم الاقتصادي، يغيب النقاش حول السياسات الاقتصادية المستقبلية. ويعزى السبب إلى عدم فهم مَواطن الفشل في ظل النظام القديم. فليبيا في عهد القذافي لم تكن فقيرة، وامتلكت رأس مال كبيراً كان متروكاً خارج البلاد: وفي أعقاب صدور قرار الأممالمتحدة، تم تجميد أصول تبلغ قيمتها 165 بليون دولار في مصارف أجنبية. والانطباع العام في ليبيا أن القذافي تعمّد عدم تطوير مؤسسات الدولة، وأنفق مبالغ طائلة من اموال النفط على أسلوب حياة باذخ خصّصه لأقلّية من ذوي العلاقات الجيدة، والأهم أنه كرّسها للمغامرات السياسية والعسكرية. ومن ناحية أخرى، هناك حنين إلى الحكم الملكي، الذي يتناقض في المخيّلة الشعبيّة مع إخفاقات حكم القذافي. إلا أن الآراء تختلف. ففي كتاب بعنوان «ليبيا منذ الاستقلال، النفط وبناء الدولة» الصادر عام 1998، درس ديرك فانديوالي العلاقة التي تجمع بين تطور مؤسسات الدولة والدخل النفطي في ليبيا. وهو توصّل إلى استنتاجات مفاجئة، ولاحظ استمرارية بنيوية بين الحكم الملكي، وبين الديكتاتورية العسكرية التي أُنشِئت فيها مؤسسات الدولة لتكون قنوات تُستَعمَل لتوزيع الدخل النفطي. ويجادل فانيوالي قائلاً إن ما يجري يتناقض مع ما جرى في الدول الغربية الحديثة حيث يقوم السبب الأساسي لإنشاء بيروقراطية الدولة على انتزاع الضرائب من المواطنين، أكثر منه على توزيع المال عليهم. ومن خلال أداء دور كهذا، تُعزّز الدولة الحديثة مستويات إدراكها للواقع الاقتصادي الذي يختبره مواطنوها، ما يولّد قدرة على صوغ سياسات اقتصادية تهدف إلى تشجيع الإنتاجية – من أجل زيادة دخل الدولة من طريق فرض الضرائب. أمّا في ليبيا، حيث تدفق الدخل فعلاً «بصورة مفاجئة»، فأغرِقَت مؤسسات الدولة الواهنة بالأموال النفطية. ولم تكمن مشكلتها في عدم معرفتها بكيفية فرض الضرائب على المواطنين، بل في كيفية توزيعها للأموال النفطية. إلا أن المال لا يعطى من دون مقابل. فالدولة لا توزّع المال إلا لاكتساب الوفاء، أو لمعاقبة المخربين، وذلك من طريق قطع التمويل عنهم، أو عن قريتهم، أو عن بلدتهم، أوعن منطقتهم. ونجحت الكتابات الكثيرة في مجال العلوم السياسية في تحديد العلاقة بين تطوّر الديموقراطية التمثيلية – وهي نظام برلماني يتم فيه انتخاب الممثلين من طريق التصويت الشعبي – وبين نظام فرض الضرائب. وساد مفهوم في إنكلترا وأماكن أخرى خلال القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، مفاده أن مالكي العقارات الذين يدفعون الضرائب للدولة يمتلكون حق التصويت دون سواهم. ومرّ وقتٌ طويل قبل أن يُدعَى جميع المواطنون الى التصويت، من أجل انتخاب ممثليهم التشريعيين، وجاء الأمر بمعظمه نتيجة للتعبئة الشاملة خلال الحرب العالمية الأولى. إلى ذلك، يمكن إنفاق المال في دولة يتواجد مصدر دخلها خارج مجتمعها على خطط سياسية في أرجاء العالم، أو على مشاريع فرعونية على غرار «النهر الصناعي العظيم»، وقد أطلق عليه العقيد القذافي يوماً تسمية «أعجوبة العالم الثامنة». وليس هذا المشروع منطقياً من وجهة نظر اقتصادية. فعدا عن كون قيمة الاستثمار الأساسية فيه قد بلغت 27 بليون دولار أميركي (بدلاً من 10 بلايين دولار كان من المنوي إنفاقها)، يضخ «النهر العظيم» المياه، مستهلكاً وقود الهيدروكربون غير القابل للتجدد، فضلاً عن المياه الأحفورية الباطنية غير القابلة للتجدد بدورها، وذلك من خلال إحداث تسريبات في خطوط أنابيب تعبر الصحراء على امتداد مئات الكيلومترات، لتخدم المياه بشكل أساسي قطاع الزراعة في المناطق الشمالية، مع العلم أن أي دولة تلجأ إلى المنطق الاقتصادي لن تستثمر في مشروع من هذا القبيل. دخل الحكومة لكن منطقاً مختلفاً يسود، ويفيد بأن الشعب لا يشكّل مصدر دخل الحكومة الليبية – كما في المكسيك أو الدنمارك – فهذا الأخير قادم من الخارج. ووفقاً لإحصاءات عام 2009، تتأتى نسبة 95 في المئة من الصادرات الليبية ونسبة 80 في المئة من عائدات الحكومة من النفط. ويخضع قطاع النفط في ليبيا لإعادة تأهيل بوتيرة أسرع مما كان مخططاً. ففي كانون الأول (ديسمبر)، أنتجت البلاد مليون برميل من النفط في اليوم، وبحلول نهاية كانون الثاني (يناير) بلغ الإنتاج 1.3 مليون برميل في اليوم. وسرعان ما سيعود الإنتاج إلى مستويات ما قبل الحرب البالغة 1.6 مليون برميل في اليوم. وتملك البلاد قدرة أكبر بكثير على إنتاج النفط، ولنتذكّر أنه في عهد الملك في نهاية ستينات القرن الماضي، أنتجت ليبيا 3 ملايين برميل في اليوم، وكان معظم هذه الكميات جاهزاً للتصدير. وفي ظل نظام القذافي، خافت الشركات الأجنبية من الاستثمار ضمن سياق لا يمكن التنبؤ به، وبالتالي، تحمل الاستثمارات الجديدة في مجالي التنقيب والبنية التحتية وعوداً بتحقيق قدرات كبيرة. وهذا هو السبب الذي يدفع بالوفود الأجنبية للتهافت إلى ليبيا، الواحد تلو الآخر، من أجل ضمان عقود مستقبلية. وبعد وقت قصير، ستغرق ليبيا بالسيولة، مع الإشارة إلى أن البلاد في حاجة ماسة إلى نقاش ما ينبغي فعله بأموال هائلة إلى هذا الحد. وفي جو من عدم الاستقرار السياسي، تسود رغبة كبيرة في الأوساط التي ستتحكم بالدخل النفطي في اكتساب وفاء الناس، وذلك من طريق توزيع الأموال عليهم. ولعل ليبيا في حاجة إلى «بعض الإجراءات التوزيعية» بالنظر إلى العناء الذي تكبده شعبها عام 2011. ولكن هناك فرصة كبيرة بأن يتمخّض الأمر عن نمط جديد من العلاقات بين الحكام والمواطنين. ومن الضروري أن ينطلق نقاش حول كيفية استعمال الدخل النفطي، وذلك من طريق إدراك التداعيات السلبية لدخل مفاجئ بهذا الحجم الكبير. ولا تقتصر هذه التداعيات على كونها سياسية، كما ورد أعلاه، فهي أيضاً اقتصادية واجتماعية. وتجدر الإشارة إلى أن الدخل النفطي يتسبب «بتأجيج» الاقتصاد، وبرفع الأسعار، وبجعل الإنتاج المحلي غير تنافسي في مواجهة الواردات الأجنبية. وتُعرَف هذه الظاهرة في العلوم السياسية باسم «المرض الهولندي»، بسبب الانعكاس السلبي لدخل الغاز المنتَج في بحر الشمال على الاقتصاد الهولندي. وبالنتيجة، وفي حين أن الدخل يرتفع، لا يحرز الاقتصاد أي تقدّم، إنّما يشهد تراجعاً في مستويات تعقيده ونموه. وهذا من وجهة نظر اجتماعية، يؤدي إلى الاعتماد على القوى العاملة الأجنبية الرخيصة، وعلى العاملين الأجانب المرتفعي الكلفة، ما يحصر عمل المواطنين بمناصب إدارية. وفي حين أن الشباب الليبي عانى بطالة واسعة النطاق، اعتمد الاقتصاد الليبي على العاملين الأجانب لضمان استمرارية الأعمال. هل يمكننا أن نحصل على دولة ديموقراطية في ليبيا تموّلها صادرات النفط، وتوزع، فضلاً عن ذلك، إعانات ورواتب هائلة لمواطنيها؟ إن الإجابة المستنبطة من الماضي الليبي ومن تجربة دول أخرى بسيطة، وهي لا.