لعل أبرز ما يشغل المصريين هذه الأيام هو البحث عن مخرج من حال الفوضى العارمة التي نشبت على أثر المصادمات العنيفة بين الشرطة والمتظاهرين والتي شكلت أحد أبرز تداعيات مذبحة ملعب بورسعيد التي خلفت الأخرى 74 قتيلاً غالبيتهم من مشجعي كرة القدم. فرغم رائحة الدم التي ملأت أرجاء البلاد خلال الأيام القليلة الماضية، إلا أن مصر يمكن أن تدفع ما هو أكثر من ضريبة الدم إذا استمرت الفوضى واستمر عجز النخب السياسية والمجلس العسكري عن إدارة تلك الفترة العصيبة انطلاقاً من المصالح الوطنية العليا للبلاد وبعيداً من لعبة الصراع على السلطة بين العسكر والمدنيين أو الإسلاميين والعلمانيين. ولعل المؤسف في الأمر حقاً أن الطرفين الكبيرين في المعادلة السياسية المصرية وهما العسكر والإسلاميون، أعادا إنتاج خطابهما القديم في مواجهة تلك الأحداث المروعة. فمرشد الإخوان محمد بديع سارع بتحميل بعض القوى والتيارات السياسية الممولة من الخارج، وفق تعبيره، مسؤولية اندلاع تلك المصادمات. أما العسكر فتوعدوا، كالعادة، بحساب عسير لمن تورطوا في إثارة تلك الفتنة وحرق البلاد. ورغم كل ما قيل أو يمكن أن يقال في شأن انتماءات ومصالح من تورطوا في تأجيج تلك الأحداث، فإنه لا يمكن لعاقل تجاهل المعضلة الحقيقية التي تحول دون استقرار النظام السياسي المصري في مرحلة ما بعد مبارك، وهى ذات شقين. الشق الأول يتعلق بطبيعة المرحلة الماضية والثاني يخص حساسية اللحظة الراهنة ودقتها. فاندلاع المواجهات بين جماهير فريقي «المصري» و»الأهلي» في ملعب بورسعيد، ومن بعدها بين المواطنين والشرطة في محيط وزارة الداخلية ومديرية أمن السويس، تشي بما يمكن أن نطلق عليه تحلل الجسد السياسي المصري، إذ أن سطوة القانون العام انهارت تماماً خلال تلك الأحداث، وهي أحد أبرز الإشكاليات المزمنة في الدولة المصرية منذ ثورة تموز (يوليو) 1952 لأن مجمل القوانين والتشريعات التي سنت، اعتباراً من ذلك التاريخ وحتى انهيار نظام مبارك، لم تتمتع بالحد الأدنى من القبول الشعبي، لأن إقرارها تم وفقاً لمنطق الأدلجة الفوقية والتحكم من بعد والذي ظل طيلة تلك الفترة مهيمناً على علاقة حكام مصر بمحكوميها. كما تم تمرير تلك القوانين عبر برلمانات مزورة لا تعبر عن الإرادة الشعبية، ما جعل فكرة خرق القانون العام واردة في الوعي الجمعي للمصريين، لا سيما في الفترات التي تتسم فيها الدولة بحال من الرخاوة وفقدان الشرعية بما يحول بينها وبين أداء دورها الرئيسي في فرض سطوة القانون وحماية مواطنيها. وهنا تكمن الخطورة، فحال تحلل الجسد السياسي لدولة ما قبل 25 كانون الثاني (يناير) 2011، تماهت مع حال الضعف والرخاوة التي تفرضها مرحلة تكوين دولة ما بعد انطلاق الثورة، لأنها، بحكم طبيعتها، تعد أخطر المراحل التي يواجهها الجسد السياسي للدولة، إذ يكون في أضعف حالاته خلالها. ولذلك فإن وقوع أي فتنة في هذا الوقت العصيب قد يؤدي إلى انهيار الدولة، وفق ما أكد جان جاك روسو في «العقد الاجتماعي». ما يعني أن انهيار الدولة المصرية قد يكون وارداً، لا سيما في ظل تراجع شرعية المجلس العسكري وانشغال القوى المدنية بمعاركها الصغيرة لتقسيم كعكة السلطة داخل البرلمان. وهو ما يعني في المجمل أن التوجه براديكالية صوب استكمال بناء مؤسسات الدولة وتمكينها من أداء دورها في سن القوانين ورقابة السلطة التنفيذية وحفظ الأمن وتوعية الجماهير من دون أدنى اعتبار لأية مماحكات أو حسابات سياسية رديئة وبراغماتية، هو الشرط الأساسي لخروج مصر من مأزقها الراهن، ومن ثم فإن المطلوب الآن هو التحرك على ثلاثة محاور رئيسية. المحور الأول هو منح البرلمان المنتخب الصلاحيات كافة المتعارف عليها في النظم الديموقراطية، سواء في ما يتعلق بسن القوانين أو سحب الثقة من الحكومة وتشكيلها، كذلك وفقاً لأغلبيته النيابية، حتى وإن تجاوزت تلك الصلاحيات مواد الإعلان الدستوري الصادر عقب استفتاء آذار (مارس) الماضي. والمحور الثاني هو حسم ملف الانفلات الأمني حتى وإن تطلب الأمر تفكيك جهاز الشرطة بالكامل وإعادة بنائه وفقاً لشرعية جديدة تتمحور حول حفظ أمن المواطنين وليس النظام، وفي إطار ثقافة جديدة تحترم مبدأي المواطنة وحقوق الإنسان بما يمكنه من أن يكون قوة ردع قادرة على فرض مبدأ سيادة القانون. أما المحور الثالث فهو دور المؤسسة الثقافية في مواجهة حال الشعبوية والانحطاط المهيمنة على المناخ الاجتماعي المصري والتي غزت النزعات الشوفينية والانفصالية بين أبناء الوطن الواحد وحسمت كثيراً من رصيد مصر كدولة أمة، لا سيما وأن مذبحة بورسعيد بدأت إرهاصاتها الأولى بحال من الاحتقان تولدت في نفوس جماهير بورسعيد بفعل لافتة رفعتها جماهير النادي الأهلي وحوت جملة مهينة لأبناء تلك المدينة. أعتقد أن التحرك على تلك المحاور سيعزز فرص نجاح عملية التحول الديموقراطي، بينما سيؤدي الفشل أو التقاعس إلى مزيد من الفوضى المدمرة للدولة والمجتمع، على حد سواء. * كاتب مصري