لم ينتظر الجزائريون محمد البوعزيزي، أيقونة الثورة التونسية، ليقدم بعضهم على الاحتجاج من طريق إحراق النفس. وعلى رغم أن عدد مضرمي النار في أنفسهم تعاظم في 2011، تعود أول حالة في الجزائر إلى أيار (مايو) 2008. يومها أشعل المقاول جمال طالب، وكان في الاربعين من العمر، النار في نفسه في العاصمة الجزائرية للاحتجاج على مصادرة القضاء ممتلكاته. وفي 2010، نُفِّذ عدد لا يستهان به من محاولات حرق النفس. ففي 10 نيسان (أبريل) 2010، حرق مزارع في الثانية والخمسين نفسه، إثر اصدار المحكمة حكماً يدينه. وحاول الطالب مصطفى بن بختي إنقاذه، لكن ألسنة النار واللهب امتدت إليه، وأودت به. وفي 20 كانون الثاني من العام ذاته، أضرم 3 عاطلين من العمل النار في أجسادهم أمام مديرية العمل الاجتماعي في ولاية أم البواقي. اعداد هذا الضرب من قتل النفس تعاظمت في 2011، وبلغت ذروتها. وأبرز هذه الحالات إقدام والدة 6 أطفال، 4 منهم في سن صغيرة، على إحراق نفسها في بسكرة. المرأة تتحدر من أسرة غير ميسورة. وفي ولاية غليزان، أضرم سائق في متنزه الولاية النار في منزله وزوجته وأولاده الثلاثة نيام فيه، في شهر رمضان الماضي. وظاهرة قتل النفس حرقاً لا تستثني طبقة أو جنساً أو فئة عمرية، فهي تطاول الشباب والمسنين والعاطلين من العمل وطلاب الثانويات والمقاولين والموظفين... والأئمة أيضاً لم يبقوا في منأى عن الظاهرة. ونقلت صحيفة «النهار» اليومية في 2 تموز (يوليو) 2011 خبر محاولة إمام جامع المقاسم في ولاية تلمسان الانتحار حرقاً، إثر مباشرة الشرطة هدم منزله المشيّد من غير رخصة. البطالة وخطر فقدان المسكن هما أبرز دواعي محاولات حرق النفس والانتحار. وفي 9 حالات من عشر، يحرق المرء نفسه في ساحة عامة على مقربة من مبنى حكومي أو مركز شرطة أو مكتب التوظيف الحكومي أو محكمة وغيرها من المؤسسات. ويندر أن يقدم أحدهم على حرق نفسه داخل منزله بعيداً من الأنظار شأن غيره من المنتحرين شنقاً أو من طريق تناول جرعة كبيرة من الدواء. وصارت محاولة الانتحار حرقاً وسيلة ابتزاز ومفاوضة وضغط، ووسيلة احتجاج اجتماعية. وارتفع عدد المحاولات الجماعية لقتل الذات. وتقدم عليها مجموعات من العاطلين من العمل أو مجموعة زملاء في العمل احتجاجاً على الظروف المهنية الاجتماعية المهينة. ويخرج بعض محاولات حرق الذات إخراجاً إعلامياً وسينمائياً يحاكي مشاهد الافلام. والاخضر مالكي هو أبرز من اعتنى بصور انتحاره. فهو لف نفسه وابنته الصغيرة بعلم الجزائر، وأضرم النار بنفسه امام بنك حكومي. والتقط هاتف المارة الخليوي صور محاولة الانتحار، وبثت على «فايسبوك» و «يوتيوب». وتتستر الجهات الحكومية على عدد حالات الانتحار من طريق حرق الذات. لكن الظاهرة ذاعت وانتشرت، وهي تثير القلق، ويرجح أن عدد هذه الحالات تجاوز المئة. ورصد مركز معالجة الحروق في وهران، 45 محاولة انتحار من هذا الضرب في هذه الولاية. و «نجحت» 43 من هذه الحالات، فتوفي من أقدم عليها. ونجا اثنان فحسب. وفي ذكرى 50 عاماً على الاستقلال، يدق وباء حرق الذات وموت الشباب في رحلة الهجرة غير المشروعة وهو معروف ب «الحراقة»، ناقوس الخطر. وحريّ بنا الإقرار بالفشل والإخفاق في ادارة شؤون الجزائر بعد الاستقلال. ولسان حال كثر من الجزائريين هو «ما زال ما عنديش الاستقلال» (لم نبلغ الاستقلال بعد). ويشعر كثر من مناضلي الاستقلال بالخيانة. وحبذا لو تنبعث الجزائر من رماد أولادها. * صحافي، عن «الوطن» الجزائرية، 3/2/2012، اعداد منال نحاس