تسأل الراوية في رواية «دايماً كوكاكولا» للكاتبة ألكسندرا شريتح: «لو أن بيروت امرأة هل كانت تعاني من السيلوليت؟» هذا السؤال لا تسعى الراوية عبير الى الاجابة عنه، فالرواية نفسها هي بمثابة جواب مسبق عليه. إنها رواية بيروت المصابة ب «السيلوليت»، مرض البشاعة، والتهدل والترهّل، الذي أصاب أيضاً الراوية والذي تذكّرته عندما وقفت أمام المرأة تراقب نفسها. أما بيروت فهي تبدو في الرواية مدينة معرّاة، مفضوحة ومضطربة، والحياة فيها «تفور» مثل الكوكاكولا. أحسنت الكاتبة شرتيح في اختيار عنوان روايتها الأولى (الدار العربية للعلوم - ناشرون) الذي ينم عن عبثية الحياة في بيروت، مدينة التناقضات والخيبات الصغيرة و «الشخصية». وقد منحت هذا العنوان الذي هو أساساً أشبه بالشعار، بعداً «وجودياً» وعبثياً، ساعية الى السخرية من ثقافة «العولمة» التي تمثل «الكوكاكولا» أحد معالمها. إنها بيروت بنكهة الكوكاكولا أو بطعمها وفورانها «الغازي» وخواء القنينة عندما ترمى. وليس بالمستهجن أن تستحيل الكوكاكولا هاجساً روائياً وهاجس بعض الشخصيات، لا سيما الراوية التي ورثته عن أمها. فعندما كانت الأم تحملها في بطنها كما تقول، «توحّمت» على الكوكاكولا التي كان زوجها أو الوالد، يرفض أن يأتيها بها لأنها تمثل بنظره السياسة الأميركية التي يرفضها. وولدت الراوية التي تدعى عبير وعلى ظهرها «شهوة» صغيرة تشبه قنينة الكوكاكولا. لقد ولدت موسومة بزمن الكوكاكولا وموشومة برمزه. لكن هاجس الكوكاكولا سيتمثل ايضاً في قناع يانا، صديقة الراوية، الشابة الرومانية التي يحمل اعلان الكوكاكولا صورتها الجريئة. هذه الشابة الرومانية التي تعمل في عرض الأزياء تعاني أيضاً مثل صديقاتها اللبنانيات، ولن يكون مصيرها أفضل من مصيرهن، خصوصاً الراوية. فهي تقع بدورها ضحية هذه المدينة وتخيب وتعود الى بلادها حاملة في بطنها جنيناً رفض والده اللبناني أن يعترف به وأن يتزوج من أمه التي عاشرها فترة. أما اللحظة التي تبلغ فيها الكوكاكولا ذروة عبثيتها فهي عندما تتم المقارنة بينها وبين الفتاة فيتماثل فض العذرية مع فتح القنينة. هذا «التعبير» الشعبي الرائج تسخر منه الكاتبة أيما سخرية، كاشفة عن «العطب» الذي يكمن فيه. فيما أرخص تشبيه الفتاة بقنينة الكوكاكولا. هذا أسوأ تشبيه يمكن أن يطلق على الفتاة. ولا تغيب الكوكاكولا عن مشهد اغتصاب الراوية، فعندما يقبل عشيق الرومانية يانا على اغتصاب عبير في مكتبه داخل مصنع الكوكاكولا ويخضعها عنوة وبالقوة لنزوته تبصر أمامها اعلان الكوكاكولا الذي تظهر فيه صديقتها يانا. ومنذ أن يغتصبها يسقط من ذهنها وهم العذرية التي طالما خشيته، لكنها تشعر أن حياتها أضحت متناثرة مثل قطع «بازل» ولا يجمعها سوى ترميم غشاء العذرية. وربما كانت الراوية ترغب بالسر في أن تفقد عذريتها في مدينة لا تعرف العذرية، وكان في امكانها - ربما - صد المعتدي عليها بطريقة ما، لكنها لم تفعل، بل استسلمت وكأنها تريد اختبار هذه التجربة وكسر رهبتها المتوهمة وتخطّي سطوة جسدها الذي كانت تكرهه نظراً الى عدم جماله، أو بشاعته بالأحرى المتمثلة خصوصاً في السيلوليت والشعر الذي فوق الفم. أما الشخصية الأخرى اللافتة في الرواية فهي ياسمين صديقة الراوية. فتاة شابة جاءت من الجبل والتحقت بالجامعة، أمها ألمانية وحلمها ممارسة الملاكمة، وقد أفقدت الملاكمة جسمها الكثير من أنوثته حتى بات يشبه جسم رجل. وقد أشيع عنها في الجامعة أنها سحاقية ما جعل صديقتها الراوية تتحاشى الظهور معها كثيراً وعلانية، على رغم الصداقة المتينة التي تجمعهما. فتاة غريبة الأطوار، تحلم بشراء دراجة نارية ولا يثنيها أمر عن تمارين الملاكمة. إنها الوجه الآخر للراوية عبير ولصديقتهما يانا، الرومانية التي لم يتورع الكثير من الشبان في الشارع البيروتي عن مناداتها بالعاهرة، ظناً منهم - كما يروج في بيروت - أن كل فتاة من أوروبا الشرقية تقيم في لبنان هي عاهرة. لكن يانا لم يأت بها الى لبنان سوى حلمها «الاستشراقي» ولم تتزوج من رجلها اللبناني إلا رغبة في تحقيق هذا الحلم والعيش في شرق عمر الخيام والمتنبي و «ألف ليلة وليلة»... لكن خيبتها كانت كبيرة فوقع الطلاق ثم أعقبه الحب ثم الحمل ثم الخيانة. وبدا هذا الحلم «الاستشراقي» في غير محله، فهذه الشابة الرومانية هل قرأت فعلاً الخيام والمتنبي بالانكليزية لتمضي في البحث عن شرقهما؟ رواية جميلة وجريئة على رغم صغرها (94 صفحة) وبدت صاحبتها ملمّة بتقنيات السرد، وقد نجحت كثيراً في الاختصار، مبتعدة عن الثرثرة أو الإطناب والتطويل. وكان في امكانها أن تستفيض وأن تعتمد الكثير من الحوارات والتداعيات والمونولوغات، لكنها شاءت أن تقول في أقل الكلام ما يقال في الكثير منه عادة. وتبدو الكاتبة صاحبة عين سينمائية، وقد وظفت هذه العين لبناء مشاهد جميلة مثل مشهد اجتماع العائلة الكبيرة في منزل الجدة الصغير، الأب والأم والأشقاء والأعمام والعمات والأولاد، وقد بدت هذه اللقطة سينمائية بامتياز. ولا يمكن أيضاً تناسي «لقطة» الشاب وليد الذي يظل واقفاً عند مدخل البناية التي تقطنها ياسمين، مرتدياً زياً نسائياً ومزيناً وجهه كالفتيات، ومنه «تفيض الأنوثة مثلما تفيض الكوكاكولا من قنينة خضت قبل فتحها». هذا الشاب المَثَلي - على ما بدا - يموت موتاً غامضاً ويختفي... ناهيك بمشهد الراوية في غرفتها أمام المرآة ومشهد الدراجة وسواهما... إنها بيروت، بل إنها الحياة في بيروت أو الخيبة والموت في بيروت، هذه المدينة المبعثرة مثل قطع «بازل» والتي يستحيل جمعها حتى وإن أجريت لها جراحة أو رمّم جسدها، الممزق والمنهك. إنها بيروت التي تشبه قنينة «الكوكاكولا» تفور وتفور ثم... فراغ.