احتفاءً بتجربة الفنّان التشكيلي الأردني/ الفلسطيني أحمد نعواش، أقام غاليري بنك القاهرة/ عمّان، معرضاً جديداً لأعماله، ضمّ سبعاً وخمسين لوحةً، يمثّل القسم الأوّل منها أبرز المحطّات التي مرّت بها تجربته، أمّا القسم الثاني فهو عبارة عن مجموعة جديدة من اللوحات التي يتم عرضها للمرّة الأولى. منذ بواكير أعماله التي أنجزها في بداية السّتينات من القرن الماضي، حرص نعواش على أن يختطّ لنفسه ملامح خاصّة في التشكيل، حتى ليمكن القول إنّ هذا الفنّان هو نسيج وحده، فعلى مدار خمسين عاماً من عمر تجربته التشكيلية ظلّ هذا الفنّان مخلصاً لأسلوبه الفنّي، كما ظلّ حريصاً على تطوير تجربته بما يتلاءم مع هذا الأسلوب، إذ لم تغره التقليعات الجديدة التي كانت تظهر بين فترة وأخرى، والتي سرعان ما كانت تخطف الأجيال الجديدة من الفنّانين. مسرح الاطفال تمثّل الطفولة وعوالمها الآسرة، المسرح الذي تتحرّك عليه أعمال الفنّان، فهذه الأعمال غالباً ما يظهر فيها الأطفال، بوجوهم البريئة الحالمة، بلعبهم وحركاتهم الجميلة العابثة، وحكاياتهم التي تتشعّب إلى ألف حكاية وحكاية. وكما يفعل الطفل في العادة، نرى الفنّان يميل إلى رسم وجوه الأطفال بحجوم كبيرة، حتى إنّه ليختزل جسد الطفل أحياناً بالوجه الواسع البارز الذي يقف على ساقين ضئيلتين، من دون باقي التفاصيل. في اللوحة يظهر إلى جانب الطفل أشخاص آخرون: كالأصدقاء وأفراد الأسرة. أحياناً تظهر هناك قطط، حيوانات، أسماك. أحياناً يظهر الأعداء. في اللوحة أيضاً نحسّ بوجود حدث ما، ما يترك انطباعه في ملامح الوجوه، وحركة الأشخاص. لا تقف الأمور عند حدّ رسم الأطفال في اللوحات، وإنّما تمتدّ ريشة الفنان لترسم العالم من وجهة نظر الطّفل، بشخوصه وأشيائه، وما يحدث فيه من وقائع. ولذلك فنحن نرى التّغيّرات التي تطرأ على الأجساد، التي يمكن أن تطول أحياناً، وتقصر أحياناً أخرى، تبعاً لأهمّيتها في اللوحة. الأيادي أيضاً تارةً نجدها طويلة، وتارةً قصيرة وربّما مبتورة أو غير موجودة. ثمّة لوحات نعثر فيها على شخصيّات تحيونت، فصارت تمشي على أربع، فيما سيّدها من ورائها يقودها ويلفحها بسوطه. في بعض اللوحات نرى أجساداً محلّقة، وربّما كان ذلك بفعل قوّة الحلم التي جعلتها تخفّ وتطير. ولعلّ ارتباط حياة الفنان بالقضية الفلسطينية، ومواكبته لمحطّاتها المختلفة، قد ترك تأثيره الكبير في معظم الأعمال التي رسمها. لذلك، فنحن نستطيع من خلال تأمّل اللوحات أن نميّز سنوات العنفوان التي مرّت بها هذه القضية، من سنوات النكوص والهزيمة. ففي الحالة الأولى نجد القامات المنتصبة، والوجوه المتحدّية الفرحة، وفي الحالة الثانية نجد الألم الكاسح الذي يجلل الوجوه، هذا إضافة إلى الحيرة التي تتبدّى في ملامح الشّخصيّات. إنّ تلك الأسرة المرسومة في اللوحات، وما تواجهه في طريقها هي أسرة رمزية، يمكن أن تشير إلى واقع الشعب الفلسطيني وما واجهه هذا الشعب من أهوال. في اللوحات ثمّة مجموعة من الرّموز التي استخدمها الفنّان، والتي يمكن اعتبارها بمثابة مفاتيح لدراسة أعماله، وفكّ شيفراتها الداخلية. من هذه الرموز: الحمامة، العقرب، البقرة، الهلال، الصّليب، السّمكة، والبندقيّة. وكما هو معروف فإنّ كل رمز من هذه الرموز يؤدّي وظيفة معيّنة، فالحمامة كما تظهر في لوحة مرسومة عام 1975 تشير إلى سبات ما يلفّ الحالة العامة، خصّوصاً أنّ الحمامة في وضع سكوني، وتجلس على رأس إنسان نائم. العقرب تشير إلى عدو، وهذا يتّضح في لوحة (الطفلة والعقرب) المرسومة عام 1982، حيث نلاحظ كِبَر حجم العقرب، وعلينا أن نتذكّر هنا إحدى المحطّات الفارقة في التاريخ الفلسطيني، حين وقعت حرب عام 1982، وما تلاها من مجازر في المخيّمات. البقرة الذي ترمز إلى الخصب عادةً، رسمها الفنّان في اللوحات كتعبير عن حالة الخنوع والبؤس التي تتلبّس الناس في أوقات الهزيمة. تدلّل على ذلك لوحة «الحاخام والأغلال» المرسومة في عام 1980، حيث البقرة التي تدبّ على الأرض ولكن بوجه بشري معذّب. رمز الهلال والصليب في اللوحات جاء ليعبّر عن الإخاء الذي يشدّ المسلمين بإخوتهم المسيحيين. رمز السّمكة، والذي تكرّر استخدامه في عدد من اللوحات، هو رمز يشير إلى المسيح عليه السلام، وقد اتّخذه المسيحيّون الأوائل ليمثّلهم في فترة الدّعوة السّريّة. الفنّان هنا يعيد إليه الاعتبار ليشير من خلاله إلى مقاومة الاحتلال السّريّة، والمقاومين الذين يفتدون شعبهم بأرواحهم. بالنسبة إلى البندقية فكانت هي الرمز الأكثر استخداماً، وقد استحوذ وجودها على عدد كبير من اللوحات مثل: «السلاح ينطق» 1990، «المحارب» 1982، «الأطفال والمواجهة» 1990، وغيرها من الأعمال. في هذه اللوحات تبرز البندقية بحجم كبير نسبياً، وقد ارتفعت في فضاء المشهد، دلالة على التّصدّي والمقاومة.