قتل والد عبدالحميد في مدينة حماة السورية في عام 1982، ولم يكن قد بلغ الثامنة من عمره. ففي أثناء الحملة التي شنّها الجيش السوري على المدينة أثناء الصدام مع جماعة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت، وبينما كان الوالد يحاول إقفال متجره في سوق المدينة، سقطت قذيفة حطمت المتجر وتداعت الجدران على جسم الرجل، فقتل على الفور. وبعد سقوط المدينة بيد الجيش تولى عبدالحميد ووالدته سحب جثة الوالد من بين أنقاض متجره ودفناها بصمت، في وقت لم يكن إشهار الحزن متاحاً للسكان. لا يكاد عبدالحميد يذكر من صورة الوالد إلا مشهد الجثة. الوالدة كفت منذ مقتل زوجها عن أي ذكر لحكايات تصل الوالد بأبنائه الأيتام، على رغم أن والد عبدالحميد لم يكن من جماعة الإخوان، لكن ومنذ ذلك الوقت صمتت حماة كلها، لا بل إن العالم من حولها صمت، وحتى الهاربون من المدينة ممن نجوا بأنفسهم وممن استبقوا المجزرة صمتوا أيضاً. عبدالحميد الذي يبلغ من العمر اليوم 37 عاماً عاش منها 28 عاماً تحت وطأة شعور قاتل بالضغينة حيال النظام في سورية، تخفف من هذه المشاعر عندما تولى الرئيس السوري بشار الأسد الحكم. أخفى عن أمه حقيقة أنه علق صورة للرئيس الجديد في متجره، المتجر نفسه الذي قُتل فيه والده. فإلى جانب كونه تاجراً يعرف أن الصورة تُسهل له الكثير من علاقات السوق، شعر الشاب بأن الرئيس الوريث لا علاقة له بمقتل والده، والوعود التي أطلقها تؤشر إلى احتمالات تغيير في سورية. لم يدم ذلك طويلاً، وسرعان ما اكتشف الشاب الحموي أن الحكم استمرار. وها هو عبدالحميد اليوم وقد هرب من حماة، ومن سورية كلها بعد أن انخرط في أعمال الانتفاضة السورية وصار من المطلوبين إلى أجهزة الأمن السورية. ثمة حكاية موازية لحكاية عبدالحميد تحف بحماة المجزرة من دون أن تكون في صلبها، ووقائعها تجري على لسان شاب آخر لم يكن قد ولد حين وقعت المجزرة. إنها ما يرويه باسل النجار الشاب السوري الحلبي الذي ولد في العراق لأب إخواني هرب من سورية في أعقاب المجزرة، أو قبلها بقليل. وبقي باسل في العراق إلى ما بعد سقوط النظام حيث سجن والده لدى السلطات الجديدة، وبعد الإفراج عنه تنقل الشاب مع أبيه وعائلته بين السودان واليمن، وها هو اليوم مقيم في اسطنبول وناطق باسم مكتب المراقب العام للإخوان المسلمين محمد رياض الشقفة الذي اقترن الشاب بابنته. حصلت مواجهة افتراضية بين الشابين، أي عبدالحميد وباسل! صحيح أنهما لم يلتقيا يوماً، فالأول يقيم اليوم في عمان فيما الثاني في اسطنبول. فعبدالحميد يشعر بأن مجزرة حماة بقيت طوال ثلاثين سنة سراً بينه وبين والدته، وأن لا سياق إنسانياً تم حفره لتصريف المأساة، وأن الإخوان المسلمين الذين خرجوا من المدينة لم يتولوا مهمة تحويلها ظلامة على نحو ما حول الأكراد مثلاً حلبجة إلى ظلامتهم، وعلى نحو ما حول العراقيون المجازر التي ارتكبها النظام بحقهم ظلامة وأيقونة. ذهل باسل من دعوى عبدالحميد المتمثلة في إهمال الإخوان المسلمين ظلامة حماة، فهو الذي ولد وتربى في محاضن الشتات الإخواني يعتقد أن الإخوان، لشدة انجذابهم للمأساة، فقدوا بوصلة السياسة في الكثير من الأحيان. يقول باسل إن إحياء المناسبة كان يتم كل عام، وإن المجزرة موجودة في الوعي الإخواني على نحو معطل لاحتمالات تجاوزها. ويسأل كيف يمكن عشرات الآلاف من الحمويين الإخوان المنتشرين في كل العالم تجاوز حقيقة مثل مجزرة حماة. فمن قتل هو أهلهم وأشقاؤهم وأولادهم. إذاً، في المسافة بين ما قاله عبدالحميد وما قاله باسل ما يجب التأمل به. فحماة المجزرة، والتي تتراوح الأرقام حول عدد ضحاياها بين 15 ألفاً و35 ألفاً، لم تُكرس كمأساة متحققة في الوعي الإنساني على رغم أنها حقيقة لا تقبل الدحض! مقارنة سريعة بين الكتب والأفلام والتقارير الصحافية التي كُتبت أو عُرضت عن مجازر مثل حلبجة أو صبرا وشاتيلا أو قانا وصولاً إلى الأنفال في العراق ودارفور في السودان، وبين ما كتب أو صور عن حماة، يثبت تفوقاً لحماة المجزرة لجهة عدد الضحايا وتقهقراً في مستوى التبني الإنساني الدولي والعربي والإسلامي لها بصفتها مجزرة متحققة. القول بأن للمجازر الأخرى روافع لم تتوافر لحماة صحيح لكنه غير كافٍ. فقد توافرت لحلبجة قضية حملها الشتات الكردي العراقي إلى الغرب، وقدرة لدى الأحزاب الكردية على زرع المجزرة في الوعي الإنساني. وفي لبنان مثل الحضور الإعلامي الغربي بالدرجة الأولى، وجاذبية القضية الفلسطينية سببين لبث حقيقة ما جرى في صبرا وشاتيلا. حماة المجزرة لم تُنفذ في سياق الصراع العربي - الإسرائيلي، ولم تحمل ظلامتها جماعة تملك نفوذاً وقوة تمكنها من بث المأساة في وجدان جماعي محلي أو إقليمي. قد تحضر هنا حقيقة أنها المجزرة الأفقر على صعيد الصور والوقائع المتكشفة. هذا صحيح طبعاً، لكن الشهادات الحية التي حلت مكان الصور في الكثير من عمليات التطهير والإبادة، لم يجر أيضاً تعويض غياب الصور عبرها في حالة حماة. المدينة المعاقبة إحياء ذكرى المجزرة اقتصر على الإخوان المسلمين في محافلهم وشتاتهم بما يشبه طقساً داخلياً يجري تخزينه في النفوس! أما في حماة المدينة فقد جرى نفي وإنكار للمأساة في الوقت نفسه الذي عاشت المدينة معاقبة على مدى ثلاثة عقود بسبب حقيقة أن عشرات الآلاف من أبنائها قتلوا. يكفي أن نذكر الفارق في الأرقام لكي نستنتج كم كان ممنوعاً توثيق المجزرة. لكن سؤال عبدالحميد حول صمت العالم يبقى من دون جواب! فالإخوان المسلمون خرجوا من سورية وانتشروا على نحو ما انتشرت الجاليات العربية المقصاة من أوطانها، لكنهم لم يتولوا نشر أخبار المجزرة، أو على الأقل لم ينجحوا في ذلك. ولعدم نجاحهم أسباب ربما من المفيد عرضها. أولاً، خرج الإخوان من سورية إلى دول مجاورة مثل العراق والأردن واليمن وتركيا، وهذه ليست الدول التي يمكن فيها تأسيس وعي بمجزرة من نوع تلك التي شهدتها حمص، ذاك أن بعض تلك الدول استقبلهم بصفتهم احتمال اختراق للداخل السوري على نحو ما فعل العراق والأردن، وأخرى بصفتهم لاجئين صامتين من المفترض أن لا يعكروا صفو توازنات قائمة مع النظام في سورية، وهنا تحضر تركيا نموذجاً. وهذه الوظائف ليست حماة المجزرة واحدة من همومها. ثانياً، كانت بلاد الشتات الثانية، وهنا نعني أوروبا وأميركا الشمالية، وجهة الإخوان السورية بعد محطتهم الأولى في جوار سورية، وهي بلاد نموذجية لبث المأساة في وعي الرأي العام فيها. لكن الإخوان المسلمين كانت تعوزهم خبرات لم يحتكوا بأصحابها مثل خبرات الأكراد والفلسطينيين، كما أن فكرة مخاطبة الرأي العام العالمي لم تكن جزءاً من الهم الإخواني، وهم إذ يُقدمون على تبنيها اليوم، إنما يستمدون معرفتهم بقدراتها من خبرات حديثة سبقتهم إليها الجماعات الإخوانية في تونس ومصر والمغرب وتركيا طبعاً. ثالثاً، كان لتخبط تنظيم الإخوان المسلمين في خياراته السياسية والتنظيمية دوراً حاسماً في انكفاء مجزرة حماة في الوجدان الجماعي السوري والعربي والدولي. فالإخوان ومنذ خروجهم من سورية حلت عليهم لعنة الشتات على نحو لم تحل بمثله على غيرهم من الجماعات التي طردت من أوطانها. وقد وصل الأمر بتنظيمهم ذات يوم ليس ببعيد إلى حد نقاش جرى داخل مجلس شوراهم اقترح فيه بعضهم أن يعلن التنظيم حل نفسه تاركاً لمن يرغب بالعودة أن يعود إلى سورية، ولمن يعتقد أن تسوية مع النظام تشكل ضرورة شخصية وعائلية أن يجري هذه التسوية. وقد أقدم فعلاً عشرات من كوادر الإخوان على العودة إلى سورية، وتمثلت التسوية بأن يخفف حكم الإعدام الصادر بهم إلى حكم بالسجن لفترات تزيد عن العشر سنوات. آخر محطات التخبط لكن محطات التخبط التنظيمي لم تقتصر على ذلك، ففي أعقاب حملة الرصاص المسكوب على غزة أعلن تنظيم الإخوان المسلمين السوريين وقف كل الأنشطة المعادية للنظام في سورية وذلك اعتقاداً منه أن إضعاف هذا النظام يمثل إضعافاً للمقاومة. وطبعاً لا يعني قرار كهذا أقل من اعتراف غير مسبوق بأن النظام السوري الذي طرد الإخوان المسلمين إنما هو نظام ممانعة لا يجب معارضته. ويعني أيضاً اعترافاً وإن غير معلن بأن خصومته كانت خطأ تراجعت عنه الجماعة. وفي هذا الوقت كان الإخوان دخلوا في الجبهة الوطنية إلى جانب نائب الرئيس المنشق عبدالحليم خدام، ثم عادوا وانسحبوا مع ما يمثل الدخول والانسحاب من تصدعات في جسم الجماعة انعكس تصدعاً في تماسك روايتهم وقوتها. اليوم يبدو أن الانتفاضة السورية ستكون فرصة لبعث المأساة الحموية. الأرشيف البصري غير متوافر عنها، لكن النظام تولى تجديد المشاهد على نحو لا يقل فداحة. ويسعى الإخوان المسلمون اليوم لإنتاج حكايتهم عنها. أما حكاية أهل حماة عن أنفسهم وعن مأساتهم فما زالت غير منجزة. مشاهد من مجزرة حماة وزعها «الإخوان المسلمون» في الذكرى الثلاثين مشهد: مفتي حماة الشيخ بشير المراد، ذهب الجنود إليه، وأخرجوه من داره مع مجموعة من أقربائه. وأخذوا يضربونه، ويعفرون لحيته بالتراب، وقاموا بسحله، ثم أحرقوه وهو حي، مع غيره من العلماء أبناء الثمانين. مشهد: طلب الجنود من الأهالي التوجه نحو سيارات الخبز في طرف الشارع. أسرع عدد كبير من الأطفال، وكانوا بالعشرات، حملوا الخبز وقفلوا عائدين، اعترضهم الجنود، وطلبوا إليهم الدخول إلى الجامع الجديد، وهناك فتحوا عليهم النار، وسقطت الأجساد الطرية، وسالت دماء الأطفال على الخبز الذي كان لا يزال في الأيدي الصغيرة. مشهد: قصة أسرة من آل السواس في منطقة الباشورة، اقتحم الجنود منزلها، فقتلوا الزوج، ثم أرادوا الاعتداء على شرف زوجته، فقاومتهم مقاومة شديدة حتى يئسوا منها، فصبوا مادة مشتعلة (المازوت) عليها وفي أرجاء غرفتها وأشعلوا النار فقضت نحبها حرقاً. مشهد: في حماة استخدمت المدارس والمرافق العامة كمعتقلات، وشهدت تلك السجون مجازر جماعية، منها ما حدث في أحد السجون، إذ دخل اللواء ... إلى السجن، وخاف المعتقلون في أحد المهاجع مما قد يحل بهم بعد زيارته فهتفوا بحياته، فأمر لهم بطعام وبطانيات. غير أن السجن كان تابعاً لسرايا الدفاع التي يقودها شقيق الرئيس رفعت الأسد، فجاء جنود من السرايا يحملون رشاشاتهم وصرخوا في وجوه المعتقلين بأن «لا قائد إلا الزعيم رفعت»، ثم فتحوا نيران الرشاشات على كل من كانوا في المهجع وهم نحو 90 شخصاً، فقتلوهم جميعاً. مشهد: أمر قائد سرايا الدفاع رفعت الأسد في 22 شباط (فبراير) 1982 عبر مكبرات الصوت بإحضار جميع المشايخ ومؤذني المساجد وخدامها من المعتقلين في السجون، وكانوا حوالي 1000 شخص، سيقوا إلى مصيرهم المجهول حتى اليوم. مشهد: الشيخ عبد الله الحلاق ابن الثمانين سنة، اقتادوه من أحد الملاجئ مع مجموعة من أهل الحي. طلب منه الجنود ساخرين أن يتلو القرآن، عسى أن يجد الله له مخرجاً! قرأ الشيخ ... لكن الضابط سخر وقال له: «إن ربك لن ينجدك، لقد حانت ساعتك، وسنضعك في جهنم» اقتادوه إلى سوق الحدادين، وسكبوا عليه برميل المازوت، وأحرقوه. مشهد: داخل المستشفى الوطني تمركزت واحدة من فرق الشبيحة التابعة لسرايا الدفاع بصورة دائمة طوال الأحداث، وكان عملها أن تجهز على الجرحى، حيث تكدست الجثث فوق بعضها، وفاحت روائح الأجساد المتفسخة، فكانوا يجمعونها كل يوم في سيارات النفايات، وتنقلها الشاحنات إلى الحفر الجماعية. هذه بعض القصص المرعبة التي حصلت في حماة أيام الثمانينات في المجزرة الرهيبة التي عاشتها المدينة.