لا أثر للإخوان المسلمين السوريين في مشهد الثورة السورية. لا صور ولا لافتات ولا شعارات. آلاف الأشرطة المصوّرة عن التظاهرات في المدن والقرى والقصبات، لم تظهر مشهداً يمكن المرء أن يستنتج منه أن للإخوان المسلمين حضوراً في ما يجري. والمعني هنا الإخوان كحزب وكتاريخ وكمرارة. ثمة ما يوحي بأن للسلفيين في التظاهرات حضوراً، وإن كان خفراً وضعيفاً. شعارات من نوع «الشهيد إن شاء الله» توحي بأن عقلاً سلفياً وراءها. وهناك أيضاً مشهد التدين الاجتماعي الذي يبدو قوياً في التظاهرات، لكن الإخوان المسلمين كحزب وكصورة وكشعار، غائبون عما يصلنا من الصور السورية. درعا التي انطلقت منها شرارة الانتفاضة السورية ضعيفة الحضور الإخواني تاريخياً، فهي أولاً مدينة عشائر، وهذه من علامات ضعف الإخوان، وهي مدينة «عروبية» انجذبت إلى الزمن الناصري واتصلت به عبر أكثر من قناة، وهي لاحقاً مدينة النظام التي زودت الجهاز السياسي والحزبي والأمني الرسمي كثيرين من ممثليه السنّة. وأخيراً تشكل حوران، أي المحافظة التي تضم درعا، الخاصرة الزراعية لسورية، أي المكان الأبرز الذي اختبر فيه نظام البعث اشتراكيته فوزع أراضي الإقطاعات الكبرى على فلاحين أسس لنفوذ بينهم حال دون تسرب الإخوان اليهم. أما حماه، قدس الإخوان المسلمين السوريين وملحمتهم، فهي مكلومة منذ المجزرة، وهي «إخوانية» من دون إخوان، ووقائع الانتفاضة فيها وما سبقها مؤشر إلى أن المدينة تعيش منذ 1982 من دون إخوانها. وبين درعا وحماه انتفاضات كثيرة وتظاهرات وأعمال عنف تفاوت الحضور الإخواني فيها بين الانكفاء الكامل وبين حضور رمزي يكاد أن لا يُلحظ. وهذا ليس من باب هجاء الإخوان المسلمين السوريين إنما من باب التسليم بواقع قيام السلطة باجتثاثهم إلى حد إصدار قانون يخوّلها إعدام أي سوري يثبت انتماؤه إلى هذه الجماعة. هذا الواقع لا ينفي على الإطلاق وجود نفوذ للإخوان المسلمين في سورية. فلهؤلاء نفوذ غير مرئي وغير مؤطر في تنظيم وفي جهاز. وهذه حال الإخوان في كثير من البلدان التي اضطهِدوا فيها. في تونس غابت حركة النهضة ما يقارب العشرين سنة، غياباً كاملاً، ثم عادت لتجد مكانها شاغراً. صحيح أن الغياب كان انقطاعاً خلف مرارات وأجيالاً وهواجس، لكن القواعد الإخوانية عادت لتأتلف حول «روح الجماعة» في عملية تمازج غريبة بين مكونات قليلة الانسجام بفعل النأي والبعد. في سورية حصل ذلك، وإن على نحو أعنف مما حصل في تونس. ثمة مجزرة أسست للتاريخ الحديث للجماعة، ولحاضرها ولمستقبلها، وأسست أيضاً لوعي داخلي خائف ولعنف ساد أوساط الجماعة في أماكن لجوئهم، ووسم مشاركتهم في انتفاضة اليوم. فالمدينة تأخرت عن الانخراط في الانتفاضة قبل أن تخرج مرة واحدة، وقد سبقتها جارتها مدينة السلمية إلى الخروج بأسابيع، بل إن حماه شهدت في بداية الانتفاضة تظاهرة تأييد للنظام شارك فيها آلاف ممن عادوا وانقلبوا على النظام في الأسابيع اللاحقة. ويُفسَّر تأخر التحاق حماه بالانتفاضة بالخوف المقيم في أرواح أهلها، وذاكرتهم المليئة بالمرارات نتيجة مجزرة 1982. وفي الوقائع أيضاً أن شباباً حمويين كانوا يخرجون مع أهل السلمية، وتعلموا منهم تقنيات التجمع ومخاتلة الأجهزة الأمنية ثم راحوا يطبقونها في مدينتهم. وهؤلاء الشباب ليسوا من الإخوان على الإطلاق، وليسوا أيضاً سليلي عائلات إخوانية. فالإخوان الحمويون التاريخيون إما في الخارج وإما قُتلوا، وقليلون ممن أفرج عنهم بعد قانون العفو الصادر مطلع آذار (مارس) الفائت عديمو القدرة على التحرك والتأثير، والأجيال الجديدة للعائلات الإخوانية لا تشكل الجماعة لها أكثر من مادة للحنين والتذكر. ثم إن هناك حصاراً اجتماعياً تعرضت له البيئة الإخوانية الحموية، ليس لأنها مرذولة إنما بسبب التبعات الأمنية لأي اتصال اجتماعي بها. هناك مثلاً شخصيتان إخوانيتان حمويتان أفرج عنهما بموجب قانون العفو الأخير يقيمان في المدينة، هما شايش علي الطيار وأسامة البظ، وكانا عادا من العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003 معتقدين بأن النظام سيعفو عنهما، لكنهما اعتقلا وحكما بالإعدام ثم خُفِّف الحكم إلى 12 سنة لكل منهما. وبعد الإفراج عنهما في آذار اكتشفا أن حماه التي يعرفانها هي غير حماه اليوم، ناهيك عن أن الأول منهما كان عضواً في جماعة «الطليعة المقاتلة»، أي الجماعة التي خاضت الحرب ضد النظام، وهذه قضية لم يُتح للمدينة بعد تحديد مستويات المسؤولية فيها. يجزم ناشط حموي بدور السلمية في تحريض حماه على الخروج، ففوبيا العمل العام كانت تضرب بجذورها في وعي الحمويين، ومسألة الخروج والتظاهر كانت أبعد ما يمكن أن يراود السكان في أشهر الانتفاضة الأولى. والسلمية تتصل بحماه ليس فقط بالقرابة الجغرافية، إنما أيضاً بامتدادات عائلية: ذاك أن كثيراً من عائلات السنّة «السلمونيين» تعود بأصولها إلى حماه. ويبدو أن مأساة حماه في 1982 أسست لزمن إخواني سوري غير ساطع على الإطلاق. فقد أحدثت المجزرة في الجسم الإخواني صدوعاً لم تقتصر على عدد الضحايا، إنما تركزت أيضاً في ما مثله الفشل في حماه في جسم الجماعة، خصوصاً أن الإخوان السوريين ضعيفو التماسك أصلاً ومتنازعون قبل المجزرة وفي أثنائها وبعدها بين ولاءات مناطقية وجهوية ضاعفت المجزرة حضورها. وحماه التي هذه حالها مع إخوانها هي منطقة الذروة لاحتمالات أسلمة الانتفاضة السورية، في حين تنحسر هذه الاحتمالات في المدن الأخرى على نحو كبير، والفارق بين الإسلاميين والمسلمين المنتفضين يتضح أكثر. في دمشق وفي ريفها تقود الانتفاضة نخب مدنية، بينها أئمة مساجد لا يمتّون إلى الإسلام السياسي بأي صلة، وفي دير الزور تتولى العشائر مواجهة النظام. أما استعجال النظام وحلفائه تقديم الانتفاضة بصفتها «الإسلامية» فلعل في ما قاله أحد «مثقفيه» على قناة الجزيرة ما يختصر دلالاته، إذ رأى عندما سئل عن مقتل الطفل حمزة الخطيب وتشويه جثته، أن الأخير «كان خارجاً للسبي عندما قتله رجال النظام». هذا الجواب بمضمونه السياسي والأخلاقي يختصر فعلاً خرافة النظام عن إسلامية الثورة في سورية.