لا مفر من أن تشعر وأنت تستمع إلى لويس وينزبرغ، بأنه من سلالة الفنانين الآتين من صقيع الشمال إلى لهب الجنوب ليحترقوا، ليس حباً بالنار، إنما لتأدية طقوس ابن زيدون في الحب. وأنّى اتجهت مراكبهم، يعودوا إلى شعره، فيلبسوه شيئاً من الجاز تارة، وتارة أخرى موسيقى أندلسية. وبلا تردد يفاجئونك به على إيقاعات «سْلام» - Slam (نوع من الموسيقى الغربية «الحرّة» القريبة من أجواء «الهيب هوب»). أما الرسالة فهي دعوة العودة إلى وحدة البشرية، وتحابها وتماسكها، لأنها متشابهة وثرية باختلافها، إذ لا مبرر لأكذوبة الخطر الذي يشكله بعض البشر على البعض الآخر، في رأيهم ووفق مذهبهم الثقافي. أما الحدود التي ترسمها السياسة في ما بينهم، فتلك مسألة لا تعني وينزبرغ ولا فرقته «مارساي مارساي». ربّ صدفة تلك التي جعلت لويس وينزبرغ وأفراد فرقته يقدمون عرضهم المطرّز بقصائد ابن زيدون في قاعة حفلات رياض الفتح في الجزائر العاصمة، والتي تحمل اسمه... «قاعة ابن زيدون» التي فوّت نصف جمهورها الغائب عرضاً ملوناً مليئاً بجمال الصوت والإيقاع والصورة، عرضاً غذّاه الحب، على رغم كل شيء، الحب الذي تلوّن بمشاعر الغربة والوحدة حيناً وبفرح التلاقي أحياناً، وكل الأحاسيس التي تضع الناس في كنف الإنسانية. وها هي الجنيّة استيقظت في جسد سبرينا روميرو، فهزّت الغجرية الأرض تحت قدميها، رافقتها ارتدادات الفلامينكو من رقص أنطونيو ألتيتي، وصدى قيثارة وينزبرغ وصوت الفنانة الجزائرية منى ... أم إن هذا كله تعويذة لتسترد من خلالها، أنت الجالس في ركن مظلم، تاريخ أجدادك في إشبيلية قروناً، ولتكاد تصل بأفكارك إلى أن حجراً بقي لك هناك أو شجرة... وإلا فلماذا كل هذا الانجذاب إلى تلك الموسيقى؟ وكيف توقظ رقصة «حاسة» الانتماء لديك؟! وكان العرض مزيجاً من ألوان موسيقية مختلفة، زادها الاختلاف جمالاً وأبعد عنها الرتابة. فالتقى العود بآلات موسيقى الجاز لتأدية أغنية أندلسية، وتقابل الفلامينكو و «السْلام» على وقع الأقدام الراقصة والغناء: مارساي، المتوسط الساحر، جميلة ماي، ما كنت... وغيرها من الأغاني البديعة التنوع. وكم كانت النصوص المقدمة تشبه أعضاء الفرقة وألوانهم وانتماءاتهم التي جمعت بين ضفتي المتوسط. تناولوا الحنين إلى الوطن والمرأة بروح فلسفية: ماذا لو عشقنا وطننا كما نعشق امرأة؟ كم من الأحلام سنحملها له وكم من الهدايا سنهديه وكم من الجهد سنبذل كي نسعده؟ وماذا لو أحببنا امرأة كما نحب وطناً؟ كم من التقديس سنقدسها وكم من التضحيات ستهون لأجلها؟... هكذا علا الغناء: «عندما ارتسمت نظرتك السوداء الشرقية في أعماقي، كنت طفلاً، شمسياً ووحيداً، رائحة حواريكِ الفقيرة والجميلة بقيت فيّ، كجرح ناعم، وتحت شمس حارقة، احتفظت ظلال القفى، بطعم القرفة، جدرانك البيضاء، عطر ضوئي...». وأخيراً، كان لا بد لصوت منى أن ينساب عذباً، على أنغام القيثارة... شيء من الغناء الأندلسي ل «يُسلطن» الحاضرون الجالسون على الضفة الأخرى من المتعة المتوسطية، يستمعون إلى شعر ابن خلدون العائد من فنائه الإشبيلي: «أحن إليكم كل يوم وليلة، وأهذي بكم في يقظتي ومنامي، فلا تنكروا طيب النسيم إذا سرى إليكم، فذاك الطيب في سلامي». أما اسم الفرقة «مارساي مارساي»، فهو مستوحى من التسمية الفرنسية لمدينة مارسيليا، التي حملت إحدى أغاني العرض اسمها أيضاً. وبعد ثلاثين سنة على «نيويورك نيويورك» لفرانك سيناترا، تأتي «مارساي مارساي» تحية لمدينة «المزيج البشري، لتسامحها وقدرتها على الاستيعاب، لشمسها وأضوائها ورجالها»، وفق وينزبرغ الذي، كما كان متوقعاً، ظل وفياً لموضوع الدورة الموسيقية التي تنظمها الوكالة الجزائرية للتنوير الثقافي (آرك) تحت عنوان «الأندلس، المغرب العربي، أرض الاستقبال».