ما أن يصل المرء الى الطريق المفضية الى مسرح مهرجانات بيبلوس، وهي طريق خصصت للمشاة، حتى يشعر بأنه بدأ ينتقل الى عالم الاحتفال وطقوسه. فعلى مقربة من المسرح المُشيّد في جوار ميناء جبيل الفينيقي القديم، رُكنت سيارة فخمة مزينة بالورود. وارتدت شابات أثواباً زاهية الألوان تكشف عن الظهر والكتفين والساقين، وارتدت النساء الأكبر سناً تايورات سوداً زُيّنت بخرز يلمع. ويحسب المرء أن ملابسه الcasual لا تتناسب مع طابع الحفلة الموسيقية. ولكنه سرعان ما يلاحظ أن ثمة حفلة زفاف تقام في كنيسة تقع على مقربة من موقع المهرجان. ومن أروقة جبيل الضيقة والمرصوفة بالحصى والحجارة، يصل المرء الى المسرح. ويجلس المشاهدون على مدرج من الكراسي شيد على مياه البحر، وقبالتهم نُصب مسرح المهرجان. وعندما أضيئت خشبة المسرح إضاءة خافتة، بعد عزف النشيد اللبناني، بدا أن لورينا ماكينت خرجت من عالم قصص الساحرات (fairy tales) أو القصص الخيالية. ربما هي لم تخرج من هذا العالم بل نقلتنا اليه. فهي أرخت شعرها الطويل المنسدل على كتفيها، وجلست تمد أناملها على حبال قيثارة. وبدا أنها حورية لفظها بحر جبيل مع فرقتها على الشاطئ أو سيدة من قصص الساحرات تنسج خيوطاً حريرية في برج عال. ولكن ديكور المسرح لا يوحي بالشاطئ ورماله، بل يرسم معالم قرية ريفية بعيدة من عصر الحداثة. فإلى شمال المسرح نصب سياج خشبي، على مقربة من صخور جبلية تفضي الى قلعة جبيل البحرية. وخلف السياج والصخور والقلعة، وسع المشاهد رؤية العواميد الأثرية الرخامية البيض المنصوبة في ساحة جبيل. وصوت غناء ماكينت عالي الطبقة، وهو أقرب الى غناء ال «ميزو – سوبرانو». وهو غناء ينهل كلماته من شعر انكليزي وأميركي ويستوحي مقتطفات من ملاحم بوذية هندية. ويغلب صوتها على صوت موسيقى الآلات الموسيقية، فيضيع التناغم بين الموسيقى والغناء. وكأن صوتها والموسيقى يتزامنان ولكنهما لا يلتقيان أو يترافقان أو ينسجمان. ويخال المرء أن صوتها يبلغنا من قرون غابرة وتيرته هادئة حالمة، على رغم علوه. هو صوت يليق بعالم أفلام ديزني وقصص الحب الخيالية أو ما يعرف بقصص الساحرات، فيراقص أمير أميرة طال بحثه عنها على وقع غناء حالم. وبين اغنية وأخرى، تتوجه ماكينت الى الجمهور، وتتحول الى حكواتي يروي قصة الأغنية قبل أن يغنيها، ويشارك في عزف موسيقاها. فموسيقى أغاني ماكينت لها قصص مستمدة من تجوالها في اسبانيا وإرلندا، ودول طريق تجارة الحرير القديمة من تركيا الى الهند. ودار كلام ماكينت الحكواتية، وهو كلام مقتضب، على الفرق بين المنزل والبيت الأليف في أمكنة تجتمع فيها ثقافات مختلفة، وعلى القبائل المتجولة. وتولف موسيقى ماكينت بين الموسيقى الشرقية وموسيقى القبائل السلتية وإرث هذه القبائل الغنائي المتناقل بين الأجيال. ويلتقي العود والطبل والدربكة مع الكمان والقيثارة والغيتار الكهربائي والأكورديون والبزق والبيانو على خشبة واحدة. ولكن، في بعض الأغاني، تطغى موسيقى آلة الhurdy – gurdy الموسيقية على عزف بقية الآلات. وأغاني ماكينات نوعان، الأول هادئ الإيقاع الموسيقي وحالم وشاعري، والثاني سريع الوتيرة يحاكي موسيقى البوب والموسيقى الشرق أوسطية الراقصة. وعلى رغم سرعة وتيرة الموسيقى، يبقى صوت ماكينت على حاله من العلو الحالم المحتفي بالحب والحياة. ولكن الجمهور لم يتوقف عند هذا التباين بين إيقاع الصوت وإيقاع الموسيقى. فتجاوب مع الموسيقى السريعة الإيقاع على وقع الدربكة تارة، وعلى وقع الغيتار الإلكتروني تارة أخرى. وعلى صفيق المشاهدين ليترافق مع ايقاع الطبلة والدربكة. وعلى ما تولف تيارات الموضة العالمية بين قطع من الأزياء المحلية التقليدية والقديمة والأزياء المعاصرة، فتنتخب، على سبيل المثال، الشروال الجبلي اللبناني المخصص للرجال سروالاً نسائياً معاصراً يليق به قميص يكشف عن الكتفين، تولف ماكّينت بين قطع موسيقية متحدرة من ثقافات محلية مختلفة. فيُرفق عزف العود بعزف غيتار الكتروني. ولكن ماكينت اكتفت بخلط موسيقى من ثقافات مختلفة، لكنها لم تبتكر نوعاً موسيقياً جديداً يولد من رحم الخليط الموسيقي الهجين.