تثير شوارع المدن الإسلامية تساؤلات لا حصر لها لدى من لا يعرفون القواعد الحاكمة لها، فقد ترتب على مبدأَي «لا ضرر ولا ضرار»، و»الأخذ بالعرف»، في تقرير أحكام البناء، نشوء مبدأ «حيازة الضرر»، الذي صاغ المدينة الإسلامية صياغة شاملة، و»حيازة الضرر» تعني: أن من سبق في البناء يحوز الكثير من المزايا التي يجب على جاره الذي يأتي بعده، أن يحترمها، وأن يأخذها في اعتباره عند بنائه مسكنه، وبذلك يصيغ المنزل الأسبق المنزل اللاحق من الناحية المعمارية نتيجة حيازته الضرر، وبذلك يسيطر العقار الأسبق على حقوق عدة يحترمها الآخرون عند بنائهم، فضلاً عن الحقوق التي قررها الشرع الشريف في مجال التنظيم العمراني، وكلاهما معاً أدَّى إلى وجود بيئة عمرانية مستقرة، فرأينا شوارع مدينتي القاهرة، ورشيد، استقرت بعد فترة معينة بعدما اختارت الفئة المستخدمة شكل الشوارع التي تستخدمها، والتي يصعب التعدي عليها بالبناء. ولتوضيح كيفية نشأة خطط وشوارع المدينتين، ينبغي أن نذكر أن الطريق ملك لجماعة المسلمين، وبالتالي فالسيطرة عليه من حق المارة أو المستخدمين له، فشريعتنا جعلت إماطة الأذى عن الطريق صدقة، واعتبرته من أدنى مراتب الإيمان، فما بالك بإزالة، أو منع من حاول البناء في الطريق؟ وحيث إن المارة هم المستخدمون، فالطريق يقع تحت سيطرتهم، ولأن كل ساكن في المدينة يمر ببعض الطرق أكثر من غيرها، فهو بذلك عضو في الفريق المسيطر على كل الشوارع التي يمر بها، لذلك فإن عدد المسيطرين اختلف من طريق لآخر، لاختلاف عدد مرات ترددهم عليه، بناء على موقع الطريق واتجاهه. فالفريق الذي يمر بالقصبة التي تخترق المدينة من شمالها إلى جنوبها في رشيد، والتي يعرف جزء منها بمحجة السوق، وجزء آخر بالشارع الأعظم، لا بد أن يختلف عن الفريق الذي يمر بطريق فرعي كعطفة المسك بالقاهرة المتفرعة من قصبة رضوان. وإذا نشأت مدينة جديدة، أو حي جديد فإن البناء فيها يتم من طريق تتابع البناء في أماكن هذا الحي، فإذا كثر عدد المارة في مكان ما، فإن هذا الطريق سيكون أكثر سعة، وسيمنع المارة فيه بناء على حق الارتفاق وحق المرور، أي بناء يضيّق الطريق، وبذلك يزحف البناء، وتتجاور الوحدات المعمارية بجوار بعضها البعض، إلى أن تستقر حدود الطرق تبعاً لاستخدام المارة لها. فالطريق يعكس رغبات، وإمكانات، وقيم الناس، فالطريق نتج من تراكم قرارات الفرق الساكنة، وهذه القرارات بنيت على الأسبقية في التصرف كما رأينا، فمن فتح حانوتاً قبل جاره المقابل فقد حاز الضرر، وبهذا فإن العلاقة بين الفرق الساكنة ترتبت واستقرت بحيازة الضرر، وكان الطريق وعاء لذلك الاستقرار. وبذلك نستطيع أن نقدم تفسيراً واضحاً عن كيفية نشأة شبكة الطرق في أحياء المدن الإسلامية، دون تخطيط مسبق من الدولة، فقد أملت حاجة السكان تشكيل هذه الشبكة في بعض الأحياء بالقاهرة: كالحسينية، وبولاق، والأزبكية. بل إن مدينة رشيد، وهي مدينة نشأت دون تخطيط مسبق من سلطة مركزية، ذات شبكة من الشوارع تعكس مدى ما كانت عليه من تنظيم جيد: فالشارع الأعظم يخترق المدينة من الجنوب إلى الشمال ويوازيه عدد من الشوارع كشارع الصاغة، والشيخ قنديل، ويخترقه شارع دهليز الملك الذي يربط شرق المدينة بغربها، بل إن امتدادات المدينة في اتجاه الشرق والغرب، والشمال خلال الفترة من القرن 10ه /16م إلى القرن 13 ه/19م تعكس طريقة تكون شبكات الطرق بالمدينة طبقاً لما سبق ذكره وهو ما توضحه الخرائط. ومازالت شبكة الشوارع هذه مستخدمة إلى اليوم من جانب سكان المدينة مع بعض التغييرات الطفيفة، وهو ما يعني أنها قد لبت متطلبات السكان. لكنَّ هناك حديثاً نبوياً حدد عرض الطريق، فقد روى ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن ربيعة بن عبد الرحمن وزيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اختلف الناس في الطريق فحدها سبع أذرع»، وروى ابن وهب ورفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل طريق يسلكها الناس فإنها سبع أذرع يبني كل قوم على حدهم، ومن بنى على بقيع فهو له، ومن أعمره فهو له، وكل بقيع لم يبن عليه فهو لله وللرسول وليس هو لك». لم يكن فقهاء المسلمين في تنازلهم لحد سعة الشارع جامدين بل كانت لهم نظرة مرنة في التعامل معه طبقًا لمعطيات العصر والظروف البيئية لكل مدينة. من أبرز الأمثلة على ذلك ما أتبعه الصحابة عند تخطيطهم مدينة البصرة، فقد مصرها الصحابة على عهد عمر بن الخطاب وجعلوها» خططاً لقبائل أهلها، فجعلوا عرض شارعها الأعظم وهو مريدها ستين ذراعاً، وجعلوا عرض ما سواه من الشوارع عشرين ذراعًا، وعرض كل زقاق سبعة أذرع، وسط كل خطة رحبة فسيحة لمرابط خيلهم ومقابر موتاهم، وتلاصقوا في المنازل، ولم يفعلوا ذلك إلا من رأي اتفقوا عليه ونص لا يجوز خلافه». قام الفقهاء بصوغ قاعدة لاستخدام الطرق عبَّرت عن نضج فقه تخطيط المدن في الحضارة الإسلامية هي: حق المرور: وهو حق أن يصل الإنسان إلى ملكه، داراً أو أرضاً، بطريق يمر فيه سواء كان من طريق عام، أم من طريق خاص مملوك له أو لغيره، أو لهما معاً. وبناء على ذلك نستطيع أن نقسم طرق المدينتين إلى ثلاثة مستويات من الطرق: الطرق العامة ويطلق عليها «الطريق السابلة» أو «طريق المسلمين» أو «طريق العامة»، وهذا الطريق مباح لجميع الناس في ارتياده، وإيقاف الدواب أو فتح نافذة إليه، أو اتخاذه مكاناً للبيع والشراء، شرط أن لا يضر بالمارة ولا يؤثر على الطريق نفسه، كما يشترط في كل الارتفاقات السابقة إذن الحاكم عند أبي حنيفة، ووجه قول أبي حنيفة هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه فإذا لم يأذن لم تطب[11]». ولا يشترط إذن الإمام عند الشافعية والحنابلة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به». أما شرط عدم الإضرار بالمارة عند ارتفاق الطريق العام فهو محل اتفاق بين الفقهاء، وقد شدد أبو حنيفة بإضافة عدم تقدم أي شخص بدعوى ضد فعله وإن لم يضر. يقول الكاساني: «ولو أراد رجل أن يشرع إلى الطريق جناحاً أو ميزاباً فنقول هذا في الأصل لا يخلو من أحد وجهين: أما إن كانت السكة نافذة وأما إن كانت غير نافذة، فإن كانت نافذة ينظر إن كان ذلك مما يضر بالمارين، فلا يحل له أن يفعل ذلك فلكل واحد أن يقلع عليه ذلك وإن كان ذلك مما لا يضر بالمارين حل له الانتفاع به ما لم يتقدم إليه أحد بالرفع والنقض، فإذا تقدم إليه واحد من عرض الناس لا يحل له الانتفاع به بعد ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يحل له الانتفاع قبل التقدم وبعده وكذلك هذا الحكم في غرس الأشجار، وبناء الدكاكين، والجلوس للبيع والشراء على قارعة الطريق ووجه قولهما، أن حرمة التصرف في حق الغير ليس لعينه بل للتحرز عن الضرر، ولا إضرار بالمارة، فاستوى فيه حال ما قبل التقدم وبعده، ولأبي حنيفة رحمه الله أن إشراع الجناح والميزاب إلى طريق العامة تصرف في حقهم، لأن هواء البقعة، في حكم البقعة والبقعة حقهم، فكذا هواؤها فكان الانتفاع بذلك تصرفاً في حكم الغير والتصرف في حق الغير بغير إذنه حرام سواء أضر به أم لا، لأنه أحل له الانتفاع بذلك قبل التقدم بوجود الإذن منهم دلالة، وهي ترك التقدم بالنقض في حق الإنسان بإذنه مباح فإذا دفعت المطالبة بصريح النقض بطلت الدلالة فبقي الانتفاع بالمبنى تصرفاً في حق مشترك بين الكل من غير إذنهم ورضاهم فلا يحل. وقال المالكية: من بنى في طريق المسلمين أو أضاف شيئاً من الطريق إلى ملكه منع باتفاق. كذلك قال الشافعية والحنابلة: «يمنع فعل ما يضر بالمارة في الطريق العام، إذا أضر بهم» يقول الشربيني: «ويحرم أن يبنى في الطريق دكة أو يغرس شجرة، وقيل إن لم يضر جاز. ونستطيع أن نتوقف بعض الشيء عندما ذكره الكامي، وهو من متأخري فقهاء الحنفية، إذ يذكر نازلة مفادها «رجل بنى في الطريق الأعظم بناء (بغير إذن الإمام) فإن كان يضر ذلك بالطريق يكون آثماً في ما صنع، وإن كان لا يضر لا يكون آثماً، إلا أنه لو عثر به إنسان فعطب أو دابة فتلفت كان ضامنًا، ويكون لكل واحد من آحاد الناس حق المنع والمطالبة بالرفع». هذه النازلة إن دلت على شيء فهي تدل على ضعف سلطة الدولة في الفترات التاريخية المتأخرة في السيطرة على البيئة الحضرية، لكنه يذكر لاحقاً حكماً فقهياً إن دل فإنه يدل على نضج المجتمعات الإسلامية وإدراكها أهمية الحفاظ على البيئة الحضرية للمدينة بل زيادة مساهمة هذه المجتمعات فيها، فيذكر: «رجل اشترى موضعاً وزاده في طريق المسلمين وجعله طريقاً لهم وأشهد على ذلك، صحّ، ويشترط لذلك مرور واحد من الناس بإذنه على قول من اشترط في الأوقاف وسوى في ذلك بين الطريق والمقبرة وسائر الأوقاف». القصبة العظمى ومن أمثلة الطرق العامة القصبة العظمى في القاهرة، والتي تربط بين بابي الفتوح وزويلة، وامتداد هذه القصبة الذي جاء بطريقة طبيعية نتيجة لارتفاق عدد كبير من سكان المدينة بهذا الامتداد الذي يعرف بالخيامية، والمغربلين، والسروجية. ومن أمثلته أيضاً الدرب الأحمر، وشارع تحت الربع، وسكة الحبانية، والصليبة، وأشارت إحدى الوثائق إلى الطريق العام الذي يصل بين القاهرة وبولاق. لقد صيغ هذا الطريق كطريق عام نتيجة طبيعية لاحتياجات السكان، ودون تخطيط أو تدخل مسبق من الدولة، ومن أمثلتها برشيد: الشارع الأعظم، وامتداده الذي يعرف بمحجة السوق، وشارع الشيخ قنديل، وشارع دهليز الملك. ومن أمثلتها الطرق العامة في مدينة ثلا اليمنية التي كانت مشاعة للاستخدام لجميع الأهالي، ولكل من دخل ثلا أو خرج منها، وهي مرصوفة بقطع الأحجار الصلبة المهندمة بطريقة منظمة وفق ارتفاعات ونسب معينة تخفي المرتفعات والمنخفضات الموجودة نتيجة لطبيعة المكان كون المدينة في سفح جبل. ولكل شارع من شوارعها اسم يعرف به، أحيانًا يسمى باسم أسرة كانت تسكنه مثل شارع عيسى، أو باسم معلم بارز في الشارع كالمسجد، مثل شارع نبهان نسبة إلى مسجد نبهان. وهذا النوع من الطرق هو من حقوق جماعة المسلمين، وكانت السلطات المسلمة تتدخل في بعض الأحيان للحفاظ على هذا النوع من الطرق. برز دور العلماء حتى فترة تاريخية متأخرة في تحديد اتساع شوارع المدن، فحين فكر محمد علي في شق سكة الحديد التي تعرف حاليًا بشارع الموسكي بالقاهرة طلب رأي العلماء في شأن الاتساع المناسب لهذه «السكة الجديدة» فأفتوه بأن يجعله بحيث يمر فيه جملان محملان من غير مشقة. وفي رؤية الفقهاء أنه السكة المسدودة الأسفل، وهو ملك من نفذت أبوابهم إليه لا من ملاصقة جدرانهم من غير نفوذ أبوابهم إليه، فمن نفذت أبوابهم إليه فهم الملّاك، وهم شركاء في ذلك، وليس لغيرهم إشراع جناح فيه، أو باب للاستطراق إلا برضاهم، وهذا عند المالكية والشافعية والحنابلة. أما الحنفية فقد جعلوا فيه حقاً للعامة. المستوى الثاني: هو الطريق العام الخاص، وهو أقل درجة من الطريق العام، إذ أن الارتفاق به من قبل جماعة المسلمين، يقل عن سابقه، وبالتالي تزداد سيطرة الفريق الساكن فيه عليه. وكثر هذا النوع من الطرق في مدينتي القاهرة ورشيد، وهو يفضي عادة إلى الطريق العام، وتتوزع منه شبكة طرق أكثر خصوصية، ومن أمثلة هذا النوع الدرب الأصفر الذي يربط بين القصبة العظمى بالقاهرة والجمالية، وعطفة الحمام بجوار وكالة نفيسة البيضا، وعطفة المسك المتفرعة من قصبة رضوان، وشارع المقاصيص، وحارة خشقدم. ومن أمثلة هذا النوع من الشوارع بمدينة رشيد شارع الشيخ يوسف والذي يربط بين شارع طاحون التلايت وشارع الشيخ قنديل، وشارع البواب الذي يربط بين شارع الشيخ قنديل وسوق الخضار، وشارع محمد كريم الذي يربط بين شارع الشيخ قنديل، والشارع الأعظم. الطريق الخاص المستوى الثالث: الطريق الخاص، وأفضل أمثلة هذا النوع من الطرق هو الطريق غير النافذ، وهذا النوع من الطرق ملك لساكنيه فقط ولذا سمي خاصاً، بخلاف المستوى الثاني من الطرق فإنه مشترك بين جميع أهل الطريق وفيه أيضاً حق العامة. والقاعدة التي استقر عليها الفقهاء في حكم هذا المستوى من الطرق هو أنه يجوز لأي ساكن أن يتصرف في الطريق إلا بموافقة شركائه فيه. ومن هنا نستطيع أن نفسر تلك العبارات التي وردت في سجلات المحاكم الشرعية، والخاصة بمثل هذا النوع من الطرق مثل «زقاق مشترك الانتفاع». وقد انتشرت الدروب، أو الأزقة غير النافذة في مدينتي القاهرة ورشيد. بل أكد الفقهاء مساواة الجميع في حق الاستطراق داخل المكان، فيذكر القاضي كامي الطريق إذا كان بين جماعة ودار أحدهم أوسع من دار الباقين فإنه لا يستحق بذلك الزيادة من الطريق، لأن الاستطراق أي حق المرور إلى دار كبيرة نحو الاستطراق إلى الدار الصغيرة، فلا يتفاوت ذلك بخلاف الشرب. إن هذا يقودنا إلى تركيز الاهتمام بمثل هذه النوعية من الطرق لكثرة ورود قضاياها في سجلات المحاكم الشرعية، فنسبة الدروب المسدودة في مدينة الجزائر تصل إلى 45.7 في المئة من مساحات الطرقات. ومن أشهر أمثلة العمائر المدنية بالقاهرة والتي بنيت في طريق غير نافذ منزل السناري بالسيدة زينب (1209ه /1794م) والذي يقع بحارة منج. ترتب على هذا التتابع في مستويات الطرق بمدينتي القاهرة، ورشيد أن أصبحت الطرق ذات خصوصيات متدرجة تبعاً لوقوعها تحت أي من المستويات الثلاثة السابقة، وانعكست سيطرة الفرق المالكة للطرق، وخصوصيتها في تكاتف أهل الطريق على توفير الأمن له من خلال الأبواب التي أقيمت على الحارات والدروب. إن خصوصية الحارة تنبع من كونها وحدة اجتماعية متماسكة، فالحياة في الحارة بمثابة الحياة داخل منزل واحد، فالأفراد يتضامنون مع بعضهم، بل حين يلج غريب يجري تتبعه من الأطفال وتنبيهه إلى أن وجوده في المكان يجب أن يكون لسبب واضح. وتعكس مستويات الطرق، وأحكامها، مدى التكاتف والترابط الاجتماعي الذي كانت تتمتع به المدينة الإسلامية. كان الهدف من بناء بوابات الطرق غير النافذة، والدروب، والعطفات هو الإعلام بحدود أهل ذلك الطريق أو الحي لاشتراكهم في ملكية ذلك المكان، هذا بالإضافة إلى ابتغاء السكان للأمن، فقد كانت بوابات المدن والحارات تترك مفتوحة أثناء النهار، وتقفل بالليل، بعد صلاة العشاء مباشرة، وبعضها بعد صلاة المغرب، وكانت تغلق أثناء النهار أيضاً حينما تقع اضطرابات، أو حروب أهلية، كما حدث في القاهرة سنة 791ه وسنة 923 ه. كان السكان يعينون حارسًا على باب الدرب حدد السبكي وظيفته بما يأتي: «وحق عليه أن ينصح لأهل الدرب، ويسهر عينه إذا ناموا، ينبه النوام إذا اغتيلوا بحريق أو غيره، ولا يدل على عوراتهم والياً ولا غيره» هذا ما يؤكد دوره في حماية الحارة ويؤكد استقلاليتها الإدارية. وكان السكان يبالغون في متانة الأبواب للمحافظة على الحارات، والبيوت، كما يقول علي باشا مبارك واصفاً «.... فيصفحون (أي السكان) الأبواب بصفائح الحديد، ويسمرونها بالمسامير الكبيرة ويفرطحون رؤوسها، ويجعلون بأكتاف الباب السلاسل المتينة، ويجعلون للباب الضبة والضبتين في الخارج والداخل، ويزيدون من الداخل الترباس. وعندما يحدث خلل في أي بوابة من البوابات، أو حاجة إلى تجديدها أو إعادة بنائها، يقوم بذلك أهل الطريق على نفقتهم بعد الحصول على إذن من قاضي القضاة. ففي 1063ه /1653م مثلاً تقدم سكان درب الإبراهيمي بطلب التصريح لهم ببناء باب للحارة، لحمايتهم من اللصوص الذين قد يدخلون حارتهم، وبعد الحصول على ذلك التصريح كان من المفترض أن يشترك كل ساكن في بناء الباب وفق قدرته، وقد يقوم أحد أفراد الحارة أو السكة غير النافذة بهذا الأمر، دفعاً للضرر، ليكتسب حق إقامة ساباط يزيد به مساحة منشأته، وهو بذلك أصبح له حق البروز في الهواء طالما لم يعترض أحد من سكان الطريق، وقد اكتسب هذا الحق «حسن أغا» حينما تقدم بطلب للوالي، للإذن له في بناء بوابة درب القزازين دفعاً للضرر، وإقامة ساباط فوق بوابة الدرب المذكور، وتحمل نفقات إقامة هذه البوابة، بعد أن تم الإذن له بذلك، ولم يعترض أحد من سكان الدرب. وذلك سنة 1067ه/ 1656م. وسجلت محكمة الباب العالي واقعة مشابهة، فقد تقدم المدعو «يوسف بن محمد»، بطلب للمحكمة أوضح فيه أن باب الحارة الذي يوجد فيه بيته بدرب الشيخ فرج ببولاق قد تهدم منذ مدة طويلة، وأن أحداً لم يهتم بإصلاحه، ولذا فهو يقترح القيام بإصلاحه على نفقته الشخصية، وبناء طبقة فوق الباب، ليتوسع في بيته القائم بجوار الباب، وقد حصل على موافقة سكان الحي والقاضي أيضاً، وتم بذلك حل المسألة. ورغم ما أصاب هذه البوابات من تدمير، وتكسير على أيدي الفرنسيين مرة، وعلى يد محمد علي مرة أخرى فإنه قد بقي عدد منها سجلته لجنة حفظ الآثار، ومازال بعضها قائماً إلى اليوم، ومنها باب حارة المسك بالخيامية، وحارة الآلايلى بالغورية، وبوابة طراباي الشريف (904ه) بباب الوزير، وباب درب المبيضة بالجمالية، وباب حارة برجوان بالنحاسين، وباب متصل بقبة تتر الحجازية بالقفاصين بالجمالية، وبوابة بيت القاضي بجوار قسم الجمالية.