تبدو قرطبة عاصمة الخلافة الأندلسية الآن مدينة أوروبية حديثة. وهي لا تعد من المدن الإسبانية الكبيرة ولا يتعدى عدد سكانها مئتي ألف نسمة بينما كانت في عصر ازدهارها أيام الخلافة تزيد على خمسمئة ألف نسمة. وتقع قرطبة على السّفح الجنوبي لجبال قرطبة على منحنى الضفة الشمالية لنهر الوادي الكبير، وهي الآن عاصمة الولاية المعروفة باسم الأندلس، وتربتها مزيج من السهول الخضر حيث تزرع الحبوب والكروم، وغابات الزيتون وحدائق البرتقال والليمون، وفيها الكثير من السفوح المنحدرة من جبال سييرا مورينا، أي «جبال الشارات»، وهي أيضاً تُعد الآن مدينة صناعية في إسبانيا بها مناجم الفحم والرصاص والنحاس. هكذا أصبحت قرطبة الآن، أما عند الفتح الإسلامي فكانت تتألف من تجمعين عمرانيين يفصل بينهما سور كان الغرض منه عزل قسم المدينة الغربي الذي يضم المؤسسات الحكومية وثكنات الجند عن القسم الشرقي المأهول بالسكان. وكان القسم الغربي يشغل القصبة أو المدينة العليا أو «قبة قرطبة» كما كان يُعرف في ذلك الوقت. وكان القسم الشرقي من المدينة يُعرف باسم الشرقية ويشغل ما كان يطلق عليه اسم «المدينة العتيقة». وكان يحيط بقسمي المدينة سور منذ العصر الروماني تم ترميم الجدار الغربي منه أيام ولاية السمح بن مالك الخولاني. وكان التجمع العمراني الشرقي هو ربض من (مجموع أرباض) أحياء الجانب الشرقي من قرطبة في عصر الخلافة. وكان يشق قرطبة من وسطها طريق عريض مرصوف يُعرف بالسكة العظمى أو المحجة العظمى أو طريق أوغسطس قيصر. وكان هذا الطريق في أول الأمر ضيقاً تعترض مساره بعض الحوانيت والبيوت فأمر الخليفة الحَكَم المستنصر سنة 361 ه / 971 م بتوسيعه بهدم ما يعترضه من المباني. وكانت تتفرع من طريق المحجة العظمى شوارع عريضة تؤدي إلى أبواب المدينة وتتشعب من هذه الشوارع الرئيسة دروب كثيرة وحارات وأزقة حملت إلينا المصادر العربية الكثير من أسمائها. ومنها ذكر المؤرخون درب شراحيل نسبة الى محمد بن شراحيل قاضي قرطبة وكان له مسجد باسمه في هذا الدرب، كما ذكروا درب الزجالي نسبة إلى حير الزجالي وهو منية / متنزه على النهر، كانت تخص أحد أفراد أسرة الزجالي، ودرب الفضل بن الكامل، ودرب بني الأشهب، ودرب بني فطيس ودرب ابن زيدون، وكانت تتخلل هذه الدروب ميادين / رحبات منها رحبة أبان ورحبة خولان ورحبة ابن درهمين، وكانت تتخللها أسواق صغيرة مثل سويقة القومس وسويقة ابن نصير وسويقة ابن أبي سُفيان. كانت أبواب قرطبة في عصر الإمارة خمسة أبواب زادت إلى سبعة في عصر الخلافة أيام عبدالرحمن الناصر، فقد أمر الناصر سنة 302 ه / 914 م بفتح الباب المسمى باب عامر القرشي في السور الغربي لتيسير الوصول إلى مقبرة عامر القرشي، والباب الثاني الزائد هو باب سرقسطة أو باب الجديد. وذكر بعض المؤرخين العرب أن عبدالرحمن الناصر لجأ إلى تحصين أبواب قرطبة بطريقة مبتكرة في ذلك الوقت، فكانت أبواب قرطبة القديمة تتألف من فتحة واحدة في السور فأمر الناصر سنة 301 ه / 913م بأن يُبنى لكل باب، باب داخلي يوازيه ليصبح باباً مزدوج المدخل له فتحتان خارجية وداخلية مما يتيح لحراس الأبواب مضاعفة حراستها وتشديد مراقبة الداخلين والخارجين، وكانت لهذه الأبواب مصاريع متينة من الحديد تستخدم لغلقها. وخلال السنوات الثماني الأخيرة من عمر الخلافة وخلال أحداث الفتنة التي أعقبت مقتل عبدالرحمن شنجول، بُني حول أرباض قرطبة سور منيع لحمايتها من أي هجوم وأحيط السور بخندق، وكان في هذا السور من الجهة الشرقية ثلاثة أبواب ورد ذكرها في بعض المصادر العربيّة مثل «باب الجديد» الذي فُتح جنوب السور الشرقي، و «باب الفرج» الذي فُتح في السور بين طريق المحجة العظمى وطريق الرملة، و «باب عباس» الذي كان يمر منه طريق المحجة بعد خروجه من «باب عبدالجبار». وذكر ابن غالب أن الخندق كان يدور حول كل أرباض قرطبة وبيوتها وأن طوله من جهاته الأربع يبلغ ثلاثة وعشرين ميلاً. ومن ناحيته ذكر ابن حوقل أن قرطبة في خلافة عبدالرحمن الناصر كان يحيط بها سور ولم يشمل العمائر التي بُنيت في ضواحيها المتطرفة، وذكر أن هذه العمائر امتدت من حي الرصافة إلى ربض شقندة. كانت مدينة قرطبة الكبرى تتألف من مدن صغيرة عدة: الشرقية والغربية والشمالية والجنوبيّة. وكانت الشرقية تتألف من سبعة أرباض/ أحياء، والغربية من تسعة أرباض. اما المدينة الشمالية فكانت تتألف من ثلاثة أرباض، والجنوبيّة من ربضين فقط. ونستنتج من ذلك أن قرطبة الكبرى بما تضمه من أرباض سكنية تحيط بالقصبة أي قلب المدينة في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، كانت تتألف من جانبين كبيرين: الجانب الشرقي وكان يُعرف في ذلك الوقت باسم الشرقية، وما زال هذا الجانب من المدينة الحديثة حتى الوقت الحاضر يحمل اسم الشرقية / بالإسبانية Ajarquia. والجانب الثاني هو الغربي. وقد توسع نمو المدينة العمراني في اتجاه الشرق حتى تجاوز «باب رومية» و «باب الجديد» الذي بناه عبدالرحمن الناصر. أما من ناحية الغرب فقد امتد عمرانها حتى تجاوز أبواب «عامر القرشي» و «باب الجوز» و «باب العطارين». وكانت قرطبة الكبرى وأرباضها المحيطة بمركزها تنقسم إلى حارات / حَومَات كما جاء في المصادر العربية التي ذكرت حَومة باب الفرج، وحومة النجارين أو النشارين وحومة عين فرقدة، وكانت هذه الحومات توجد في المدينةالشرقية. كما ورد ذكر حَومة غدير بني ثعلبة. وحملت بعض أرباض قرطبة أسماء مساجد، وحملت أرباض أخرى أسماء تجارية أو صناعيّة أو أسماء أماكن وأعلام وكان من نتائج الامتداد لمدينة قرطبة الكبرى بأحيائها الخمسة واكتظاظها أن زاد عدد المساجد فيها حتى تجاوزت الألف مسجد. أما الحمامات العامّة فقد ذكرت بعض المصادر العربية أن عددها وصل في خلافة هشام المؤيد أيام المنصور بن أبي عامر إلى 900 حمام وأكثر. أما الدّور الخاصة بسكان قرطبة الكبرى فقد وصل عددها في خلافة هشام المؤيد أيام المنصور ابن أبي عامر، وكانت المدينة قد بلغت أوج عظمتها واتساعها العمراني، إلى أكثر من 213077 داراً، ووصل عدد دور علية القوم وكبار رجال الدولة في الفترة نفسها إلى 60300 دار وذلك بخلاف الغرف المُعدّة للإيجار. ووصل عدد الحوانيت والمحال العامة في أيام المنصور إلى 80455 حانوتاً. وفي ما يتعلق بأسواق قرطبة الكبرى في عصر الخلافة فقد حملت لنا المصادر العربية أسماء الكثير منها، فكان يوجد سوق للدواب يقع خارج أسوار المدينة، وكانت أسواق العطارين تقع بالقرب من باب إشبيلية ولذلك أطلق الأهالي على هذا الباب اسم باب العطارين. كما نقلت لنا المصادر العربية أيضاً أسماء أسواق أخرى في قرطبة مثل سوق الصاغة وسوق البيازرة، وهو سوق الصقور المستخدمه في الصيد. وكان يوجد أيضاً سوق الخشابين ويبدو أنه هو نفسه سوق النشارين. وكان هناك سوق السرادق، أي الخيام ويوجد بالقرب من قنطرة قرطبة. ومن ناحية أخرى حملت لنا المصادر القشتالية المسيحية بعد استرداد قرطبة سنة 1236 م الكثير من أسماء الأسواق والشوارع القرطبية والتي ربما تكون أسماؤها محرفة عن أسماء عربية وذلك في المدينة المعروفة باسم الشرقية. وقد أسفرت أبحاث علماء الآثار الإسبان في تاريخ قرطبة في العصر الإسلامي عن العثور على خريطة للمدينة وُضعت سنة 1811 ظهرت عليها أماكن بعض المواضع الإسلامية في شكل مُحدد مثل القيسارية التي تقع جنوب شرقي المسجد الجامع. وحول القيساريّة ظهرت أسماء شوارع أسواق نرى منها على سبيل المثال شارع القصابين أو اللحامين Carniceros. والجدير ذكره أن اسم القصابين ورد في كتاب ابن القوطية «تاريخ افتتاح الأندلس»، وشارع الخياطين Calledelos Altayates وشارع السراجين Silleria وقد ورد في بعض المصادر العربية باسم حوانيت السراجين. ويبدو من أسمائها المحرفة عن العربية أن الأسواق الكائنة في هذه الشوارع اتصلت بها النشاطات التجارية والصناعية التي كانت موجودة في قرطبة الإسلامية وظهرت على الخريطة المذكورة أسماء شوارع أخرى وأسواق مثل سوق الخلالين، أي سوق الخل وبالإسبانية Vinagreros، وسوق الوراقين أو الكتبية Librero وسوق الخياطين Cordoneros، وسوق الحصّارين / أي بائعي الحصر وبالإسبانية Esparteria، وسوق الجيارين، أي بائعي مواد البناء وبالإسبانية Calle del Ye. وفي قرطبة الحديثة شوارع احتفظت أسماؤها بأصولها العربيّة مثل شارع الزنيقه، وشارع المونة، أي شارع الصابون، وهناك أيضاً رحبة المغرة وفي قرطبة الحديثة أيضاً شارع يُعرف باسم شارع السّبع لغات أو السّبع ليّات Calle de las siete vueitas. وكان هذا الاسم الغريب شائع الاستخدام في شوارع المدن الإسلامية القديمة في الأندلس والمغرب مثل أشبيلية ومالقة وقرمونة وهو يُعبر عن الحواري الضيقة التي كانت توجد في هذه المدن. * كاتب فلسطيني مقيم في أبو ظبي